واعلم أن الإنسان إذا تفكر في طلب معرفة الله تعالى بالدليل والحجة فكأنه جلس في سفينة التفكر والتدبر، وأمواج الظلمات والضلالات قد علت تلك الجبال وارتفعت إلى مصاعد القلال، فإذا ابتدأت سفينة الفكرة والروية بالحركة وجب أن يكون هناك اعتماده على الله تعالى وتضرعه / إلى الله تعالى وأن يكون بلسان القلب ونظر العقل. يقول : بسم الله مجريها ومرساها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل النجاة وتتخلص عن أمواج الضلالات.
وأما قوله :﴿إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ففيه سؤال وهو أن ذلك الوقت وقت الإهلاك وإظهار القهر فكيف يليق به هذا الذكر ؟
وجوابه : لعل القوم الذين ركبوا السفينة اعتقدوا في أنفسهم أنا إنما نجونا ببركة علمنا فالله تعالى نبههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب منهم، فإن الإنسان لا ينفك عن أنواع الزلات وظلمات الشهوات، وفي جميع الأحوال فهو محتاج إلى إعانة الله وفضله وإحسانه، وأن يكون رحيماً لعقوبته غفوراً لذنوبه.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٥٠
٣٥٣
واعلم أن قوله :﴿وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ﴾ متعلق بمحذوف، والتقدير : وقال اركبوا فيها، فركبوا فيها يقولون : بسم الله وهي تجري بهم في موج كالجبال.
المسألة الثانية : الأمواج العظيمة إنما تحدث عند حصول الرياح القوية الشديدة العاصفة فهذا يدل على أنه حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة شديدة، والمقصود منه : بيان شدة الهول والفزع.
المسألة الثالثة : الجريان في الموج، هو أن تجري السفينة داخل الموج، وذلك يوجب الغرق، / فالمراد أن الأمواج لما أحاطت بالسفينة من الجوانب، شبهت تلك السفينة بما إذا جرت في داخل تلك الأمواج.
ثم حكى الله تعالى عنه أنه نادى ابنه، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أنه كان ابناً له، وفيه أقوال :
القول الأول : أنه ابنه في الحقيقة، والدليل عليه : أنه تعالى نص عليه فقال :﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَه ﴾ ونوح أيضاً نص عليه فقال :﴿أَوْ بَنِى ﴾ وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز، والذين خالفوا هذا الظاهر إنما خالفوه لأنهم استبعدوا أن يكون ولد الرسول المعصوم كافراً، وهذا بعيد، فإنه ثبت أن والد رسولنا صلى الله عليه وسلّم كان كافراً، ووالد إبراهيم عليه السلام كان كافراً بنص القرآن، فكذلك ههنا، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام لما قال :﴿رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا﴾ (نوح : ٢٦) فكيف ناداه مع كفره ؟
فأجابوا عنه من وجوه : الأول : أنه كان ينافق أباه فظن نوح أنه مؤمن فلذلك ناداه ولولا ذلك لما أحب نجاته. والثاني : أنه عليه السلام كان يعلم أنه كافر، لكنه ظن أنه لما شاهد الغرق والأهوال العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله :﴿مَعْزِلٍ يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا﴾ كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان وتأكد هذا بقوله :﴿وَلا تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ﴾ أي تابعهم في الكفر واركب معنا. والثالث : أن شفقة الأبوة لعلها حملته على ذلك النداء، والذي تقدم من قوله :﴿إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ كان كالمجمل فلعله عليه السلام جوز أن لا يكون هو داخلاً فيه.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٥٣
القول الثاني : أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر وقول الحسن البصري ويروى أن علياً رضي الله عنه قرأ ﴿وَنَادَى نُوحٌ﴾ والضمير لامرأته. وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير ﴿نُوحٌ ابْنَه ﴾ بفتح الهاء يريد أن ابنها إلا أنهما اكتفيا بالفتحة عن الألف، وقال قتادة سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إن الله حكى عنه أنه قال :﴿إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى﴾ وأنت تقول : ما كان ابناً له، فقال : لم يقل : إنه مني ولكنه قال من أهلي وهذا يدل على قولي.


الصفحة التالية
Icon