القول الثالث : أنه ولد على فراشه لغير رشدة، والقائلون بهذا القول احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو على خلاف نص القرآن. أما قوله تعالى ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه. قبل لابن عباس رضي الله عنهما : ما كانت تلك الخيانة، فقال :/ كانت امرأة نوح تقول : زوجي مجنون، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به. ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب قوله تعالى :﴿الْخَبِيثَـاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـاتِا وَالطَّيِّبَـاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـاتِ ﴾ (النور : ٢٦) وأيضاً قوله تعالى :﴿الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَآ إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌا وَحُرِّمَ ذَالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور : ٣) وبالجملة فقد دللنا على أن الحق هو مقول الأول.
وأما قوله :﴿وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ﴾ فاعلم أن المعزل في اللغة معناه : موضع منقطع عن غيره، وأصله من العزل، وهو التنحية والإبعاد. تقول : كنت بمعزل عن كذا، أي بموضع قد عزل منه.
واعلم أن قوله :﴿وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ﴾ لا يدل على أنه في معزل من أي شيء فلهذا السبب ذكروا وجوهاً : الأول : أنه كان في معزل من السفينة لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق : الثاني : أنه كان في معزل عن أبيه وإخوته وقومه : الثالث : أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنهم فظن نوح عليه السلام أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٥٣
أما قوله :﴿يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ﴾ فنقول : قرأ حفص عن عاصم ﴿أَوْ بَنِى ﴾ بفتح الياء في جميع القرآن والباقون بالكسر. قال أبو علي : الوجه الكسر وذلك أن اللام من ابن ياء أو واو فإذا صغرت ألحقت ياء التحقير، فلزم أن ترد اللام المحذوفة وإلا لزم أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب لكنها لا تحرك لأنها لو حركت لزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف المد واللين إذا كانت حروف إعراب، نحو عصا وقفا ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير ثم أضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث آيات. الأولى : منها للتحقير. والثانية : لام الفعل. والثالثة : التي للإضافة تقول : هذا بني فإذا ناديته صار فيه وجهان : إثبات الياء وحذفها والاختيار حذف الياء التي للإضافة وإبقاء الكسرة دلالة عليه نحو يا غلام ومن قرأ ﴿أَوْ بَنِى ﴾ بفتح الياء فإنه أراد الإضافة أيضاً كما أرادها من قرأ بالكسر لكنه أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف تخفيفا فصار يا بنيا كما قال :
يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
ثم حذف الألف للتخفيف.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعاه إلى أن يركب السفينة حكى عن ابنه أنه قال :﴿سَـاَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ ﴾ وهذا يدل على أن الابن كان متمادياً في الكفر مصراً عليه مكذباً لأبيه فيما أخبر عنه فعند هذا قال نوح عليه السلام :﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ ﴾ وفيه سؤال، وهو أن الذي رحمه الله معصوم، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم وهو قوله :﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ وذكروا في الجواب طرقاً كثيرة.
الوجه الأول : أنه تعالى قال قبل هذه الآية :﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (هود : ٤١) فبين أنه تعالى رحيم وأنه برحمته يخلص هؤلاء الذين ركبوا السفينة من آفة الغرق.
إذا عرفت هذا فنقول : إن ابن نوح عليه السلام لما قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه السلام أخطأت ﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ ﴾ والمعنى : إلا ذلك الذي ذكرت أنه برحمته يخلص هؤلاء من الغرق فصار تقدير الآية : لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا الله الرحيم وتقديره : لا فرار من الله إلا إلى الله، وهو نظير قوله عليه السلام في دعائه :"وأعوذ بك منك" وهذا تأويل في غاية الحسن.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٥٣
الوجه الثاني : في التأويل وهو الذي ذكره صاحب "حل العقد" أن هذا الاستثناء وقع من مضمر هو في حكم الملفوظ لظهور دلالة اللفظ عليه، والتقدير : لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا من رحم وهو كقولك لا نضرب اليوم إلا زيداً، فإن تقديره لا تضرب أحداً إلا زيداً إلا أنه ترك التصريح به لدلالة اللفظ عليه فكذا ههنا.


الصفحة التالية
Icon