الوجه الثالث : في التأويل أن قوله :﴿لا عَاصِمَ﴾ أي لاذا عصمة كما قالوا : رامح ولابن ومعناه ذو رمح، وذو لبن وقال تعالى :﴿مِن مَّآءٍ دَافِقٍ﴾ (الطارق : ٦) و﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ (الحاقة : ٢١) ومعناه ما ذكرنا فكذا ههنا، وعلى هذا التقدير : العاصم هو ذو العصمة، فيدخل فيه المعصوم، وحينئذ يصح استثناء قوله :﴿إِلا مَن رَّحِمَ﴾ منه.
الوجه الرابع : قوله :﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ ﴾ عنى بقوله إلا من رحم نفسه، لأن نوحاً وطائفته هم الذين خصهم الله تعالى برحمته، والمراد : لا عاصم لك إلا الله بمعنى أن بسببه تحصل رحمة الله، كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام في قوله :﴿وَرَسُولا إِلَى ﴾ (آل عمران : ٤٩) لأجل أن الإحياء حصل بدعائه.
الوجه الخامس : أن قوله :﴿إِلا مَن رَّحِمَ﴾ استثناء منقطع، والمعنى لكن من رحم الله معصوم ونظيره قوله تعالى :﴿مَا لَهُم بِه مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ﴾ (النساء : ١٥٧) ثم إنه تعالى بين بقوله :﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ﴾ أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٥٣
٣٥٧
اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر لواقعة الطوفان، فكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفان قيل كذا وكذا ﴿وَقِيلَ يَـا أَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ﴾ يقال بلع الماء يبلعه بلعاً إذا شربه وابتلع الطعام ابتلاعاً إذا لم يمضغه، وقال أهل اللغة : الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها ﴿مَآءَكِ وَيَـاسَمَآءُ أَقْلِعِى﴾ يقال أقلع الرجل عن عمله إذا كف عنه، وأقلعت السماء بعدما مطرت إذا أمسكت ﴿وَغِيضَ الْمَآءُ﴾ يقال غاض الماء يغيض غيضاً ومغاضاً إذا نقص وغضته أنا وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا ومثله جبر العظم وجبرته وفغر الفم وفغرته، ودلع اللسان ودلعته، ونقص الشيء ونقصته، فقوله :﴿وَغِيضَ الْمَآءُ﴾ أي نقص وما بقي منه شيء.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة كل واحد منها دال على عظمة الله تعالى وعلو كبريائه : فأولها : قوله :﴿وَقِيلَ﴾ وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة، بحيث أنه متى قيل قيل لم ينصرف العقل إلا إليه ولم يتوجه الفكر إلا إلى أن ذلك القائل هو هو وهذا تنبيه من هذا الوجه، على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والعالم السفلي إلا هو. وثانيها : قوله :﴿الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَـا أَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَيَـاسَمَآءُ أَقْلِعِى﴾ فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام وشدتها وقوتها فإذا شعر العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد، صار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قهره، وكمال قدرته ومشيئته. وثالثها : أن السماء والأرض من الجمادات فقوله :﴿وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ﴾ مشعر بحسب الظاهر، على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذاً على العقلاء كان أولى وليس مرادي منه أنه تعالى يأمر الجمادات فإن ذلك باطل بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع عظمته وجلاله تقريراً كاملاً.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٥٧
وأما قوله :﴿وَقُضِىَ الامْرُ﴾ فالمراد أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزماً حتماً فقد وقع تنبيهاً على أن كل ما قضى الله تعالى فهو واقع في وقته وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه.
فإن قيل : كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكفار ؟
قلنا : الجواب عنه من وجهين : الأول : أن كثيراً من المفسرين يقولون إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ سنه إلى الأربعين.
ولقائل أن يقول : لو كان الأمر على ما ذكرتم، لكان ذلك آية عجيبة قاهرة. ويبعد مع ظهورها استمرارهم على الكفر، وأيضاً فهب أنكم ذكرتم ما ذكرتم فما قولكم في إهلاك الطير والوحش مع أنه لا تكليف عليها ألبتة.
والجواب الثاني : وهو الحق أنه لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله ﴿لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ﴾ (الأنبياء : ٢٣) وأما المعتزلة فهم يقولون إنه تعالى أغرق الأطفال والحيوانات، وذلك يجري مجرى إذنه تعالى في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة الشديدة.
وأما قوله تعالى :﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ ﴾ فالمعنى واستوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجودي، وكان ذلك الجبل جبلاً منخفضاً/ فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة ذلك الماء وكان ذلك الاستواء يوم عاشوراء.


الصفحة التالية
Icon