وأما قوله تعالى :﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾ ففيه وجهان : الأول : أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد. والثاني : أن يكون ذلك من كلام نوح عليه السلام وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٥٧
٣٥٧
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله :﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى﴾ فقد ذكرنا الخلاف في أنه هل كان ابناً له أم لا فلا نعيده، ثم إنه تعالى ذكر أنه قال :﴿قَالَ يَـانُوحُ إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ واعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه كان ابناً له وجب حمل قوله :﴿إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ على أحد وجهين : أحدهما : أن يكون المراد أنه ليس من أهل دينك. والثاني : المراد أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك والقولان متقاربان.
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب فإن في هذه الصورة / كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ولكن لما انتفت قرابة الدين لا جرم نفاه الله تعالى بأبلغ الألفاظ وهو قوله :﴿إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ ﴾ قرأ الكسائي : عمل على صيغة الفعل الماضي، وغير بالنصب، والمعنى : إن ابنك عمل عملاً غير صالح يعني أشرك وكذب، وكلمة ﴿غَيْرَ﴾ نصب، لأنها نعت لمصدر محذوف، وقرأ الباقون : عمل بالرفع والتنوين، وفيه وجهان : الأول : أن الضمير في قوله إنه عائد إلى السؤال، يعني أن هذا السؤال عمل وهو قوله :﴿إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ غير صالح، لأن طلب نجاة الكافر بعد أن سبق الحكم، الجزم بأنه لا ينجي أحداً منهم سؤال باطل. الثاني : أن يكون هذا الضمير عائداً إلى الابن، وعلى هذا التقدير ففي وصفه بكوه عملاً غير صالح وجوه : الأول : أن الرجل إذا كثر عمله وإحسانه يقال له : إنه علم وكرم وجود، فكذا ههنا لما كثر إقدام ابن نوح على الأعمال الباطلة حكم عليه بأنه في نفسه عمل باطل. الثاني : أن يكون المراد أنه ذو عمل باطل، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. الثالث : قال بعضهم معنى قوله :﴿إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ ﴾ أي إنه ولد زنا وهذا القول باطل قطعاً.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٥٧
ثم إنه تعالى قال لنوح عليه السلام :﴿فَلا تَسْـاَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌا إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه :
الوجه الأول : أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة، وهذا يقتضي عود الضمير في قوله :﴿إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ ﴾ إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال، فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر. ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا، لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير، فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال، فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح، أي قولك : إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح، وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنباً ومعصية.
الوجه الثاني : أن قوله :﴿فَلا تَسْـاَلْنِ﴾ نهي له عن السؤال، والمذكور السابق هو قوله ﴿إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى﴾ فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنباً ومعصية.
الوجه الثالث : أن قوله :﴿فَلا تَسْـاَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ ﴾ يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم، والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى :﴿وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة : ١٦٩).
الوجه الرابع : أن قوله تعالى :﴿إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ يدل على أن ذلك السؤال / كان محض الجهل. وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر، وأيضاً جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن. قال تعالى :﴿يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَـالَةٍ﴾ (النساء : ١٧) وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام :﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ (البقرة : ٦٧).
الوجه الخامس : أن نوحاً عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال :﴿إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌا وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنباً.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٥٧


الصفحة التالية
Icon