الوجه السادس : في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحاً نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق، والآية المتقدمة وهي قوله :﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَه ﴾ وقال :﴿مَعْزِلٍ يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا﴾ تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة. فنقول : إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقاً على طلبه من الولد أو كان بالعكس، والأول باطل لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقاً على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق، وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب، وبعد هذا كيف قال له :﴿مَعْزِلٍ يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ﴾ وأما إن قلنا : إن هذا الطلب من الابن كان متقدماً فكان قد سمع من الابن قوله :﴿سَـاَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ ﴾ وظهر بذلك كفره، فكيف طلب من الله تخليصه، وأيضاً أنه تعالى أخبر أن نوحاً لما طلب ذلك منه وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين، فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام.
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي، وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار، ولا يدل على سابقة الذنب كما قال :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه ﴾ (النصر : ١ ـ ٣) ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى :﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ ﴾ (محمد : ١٩) وليس جميعهم مذنبين، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل.
المسألة الثانية : قرأ نافع برواية ورش وإسمعيل بتشديد النون وإثبات الياء وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء، وقرأ أبو عمرو بتخفيف / النون وكسرها وحذف الياء أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل، وأما ترك التشديد والحذف فللتخيف من غير إخلال.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٥٧
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤال حكى عنه أنه قال :﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌا وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ والمعنى أنه تعالى لما قال له :﴿فَلا تَسْـاَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ ﴾ فقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف، ولا أعود إليه إلا أني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك، فلهذا بدأ أولاً بقوله :﴿إِنِّى أَعُوذُ بِكَ﴾.


الصفحة التالية
Icon