واعلم أن قوله :﴿إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ ﴾ إخبار عما في المستقبل، أي لا أعود إلى هذا العمل، ثم أشتغل بالاعتذار عما مضى، فقال :﴿وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ وحقيقة التوبة تقتضي أمرين : أحدهما : في المستقبل، وهو العزم على الترك وإليه الإشارة بقوله :﴿إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ ﴾ والثاني : في الماضي وهو الندم على ما مضى وإليه الإشارة بقوله :﴿وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التي صدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام. فنقول : إن أمة نوح عليه السلام كانوا على ثلاثة أقسام كافر يظهر كفره ومؤمن يعلم إيمانه وجمع من المنافقين، وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق، وكان ذلك معلوماً، وأما أهل النفاق فبقي حكمهم مخفياً وكان ابن نوح منهم وكان يجوز فيه كونه مؤمناً، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون من الأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً، بل على الوجوه الصحيحة، فلما رآه بمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينة فقال :﴿سَـاَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ ﴾ وذلك لا يدل على كفره لجواز أن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجري مجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عن الغرق، وقول نوح :﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ ﴾ لا يدل إلا على أنه عليه السلام كان يقرر عند بنه أنه لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح، وهذا أيضاً لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كان كافراً فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبه ظن أن ذلك الابن مؤمن، فطلب من الله تعالى تخليصه بطريق من الطرق إما بأن يمكنه من الدخول في السفينة، وإما أن يحفظه على قلة جبل، فعند ذلك أخبره الله تعالى بأنه منافق وأنه ليس من أهل دينه، فالزلة الصادرة عن نوح عليه السلام هو أنه لم يستقص في تعريف ما يدل على نفاقه وكفره، بل اجتهد في ذلك وكان يظن أنه مؤمن، مع أنه أخطأ في ذلك الاجتهاد، لأنه كان كافراً فلم يصدر عنه إلا الخطأ في هذا الاجتهاد، كما قررنا ذلك في أن آدم عليه السلام لم تصدر عنه تلك الزلة إلا لأنه أخطأ في هذا الاجتهاد، فثبت بما ذكرنا أن الصادر عن نوح عليه السلام ما كان من باب الكبائر وإنما هو من باب الخطأ في الاجتهاد، والله أعلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٥٧
٣٦١
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أخبر عن السفينة أنها استوت على الجودي، فهناك قد خرج نوح وقومه من السفينة لا محالة، ثم إنهم نزلوا من ذلك الجبل إلى الأرض فقوله :﴿اهْبِطْ﴾ يحتمل أن يكون أمراً بالخروج من السفينة إلى أرض الجبل وأن يكون أمراً بالهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية.
المسألة الثانية : أنه تعالى وعده عند الخروج بالسلامة أولاً، ثم بالبركة ثانياً، أما الوعد بالسلامة فيحتمل وجهين : الأول : أنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة أن نوحاً عليه السلام تاب عن زلته وتضرع إلى الله تعالى بقوله :﴿وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ (هود : ٤٧) وهذا التضرع هو عين التضرع الذي حكاه الله تعالى عن آدم عليه السلام عند توبته من زلته وهو قوله :﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ (الأعراف : ٢٣) فكان نوح عليه السلام محتاجاً إلى أن بشره الله تعالى بالسلامة من التهديد والوعيد فلما قيل له :﴿قِيلَ يَـانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَـامٍ مِّنَّا﴾ حصل له الأمن من جمبع المكاره المتعلقة بالدين. والثاني أن ذلك الغرق لما كان عاماً في جميع الأرض فعند ما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان، فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جميع الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلما قال الله تعالى :﴿اهْبِطْ بِسَلَـامٍ مِّنَّا﴾ زال عنه ذلك الخوف، لأن ذلك يدل على حصول السلامة من الآفات ولا يكون ذلك إلا مع الأمن وسعة الرزق، ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة هي عبارة عن الدوام والبقاء، والثبات، ونيل الأمل، ومنه بروك الإبل، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، ومنه تبارك وتعالى، أي ثبت تعظيمه، ثم اختلف المفسرون في تفسير هذا الثبات والبقاء.


الصفحة التالية
Icon