ثم قال :﴿فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ﴾ وهذا نظير ما قاله نوح عليه السلام لقومه :﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ إلى قوله :﴿وَلا تُنظِرُونِ﴾ (يونس : ٧١).
واعلم أن هذا معجزة قاهرة، وذلك أن الرجل الواحد إذا أقبل على القوم العظيم وقال لهم : بالغوا في عداوتي وفي موجبات إيذائي ولا تؤجلون فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقاً من عند الله تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الأعداء.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٦٥
ثم قال :﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ قال الأزهري : الناصية عند العرب منبت الشعر في مقدم الرأس ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته.
واعلم أن العرب إذا وصفوا إنساناً بالذلة والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي أنه مطيع له، لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا في القرآن بما يعرفون فقوله :﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته، ومنقاد لقضائه وقدره.
ثم قال :﴿إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وفيه وجوه : الأول : أنه تعالى لما قال :﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ أشعر ذلك بقدرة عالية وقهر عظيم فأتبعه بقوله :﴿إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي أنه وإن كان قادراً عليهم لكنه لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب، قالت المعتزلة قوله :﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ يدل على التوحيد وقوله :﴿إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ يدل على العدل/ فثبت أن الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل. والثاني : أنه تعالى لما ذكر أن سلطانه قهر جميع الخلق أتبعه بقوله :﴿إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ يعني أنه لا يخفى عليه مستتر، ولا يفوته هارب، فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه، كما قال :﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر : ١٤) الثالث : أن يكون المراد ﴿إِنَّ رَبِّى﴾ يدل على الصراط المستقيم، أي يحث، أو يحملكم بالدعاء إليه.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٦٥
٣٦٥
اعلم أن قوله :﴿فَإِن تَوَلَّوْا ﴾ يعني فإن تتولوا ثم فيه وجهان : الأول تقدير الكلام فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير في الإبلاغ وكنتم محجوبين كأنه يقول : أنتم الذين أصررتم على التكذيب. الثاني :﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِه إِلَيْكُمْ ﴾.
ثم قال :﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ يعني يخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم، وهذا إشارة إلى نزول عذاب الاستئصال ولا تضرونه شيئاً، يعني أن إهلاككم لا ينقص من ملكه شيئاً.
ثم قال :﴿إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ﴾ وفيه ثلاثة أوجه : الأول : حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها. الثاني : يحفظني من شركم ومكركم. الثالث : حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٦٥
٣٦٧
اعلم أن قوله :﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي عذابنا وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله بها سبع ليال وثمانية أيام، تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية.
فإن قيل : فهذه الريح كيف تؤثر في إهلاكهم ؟
قنلا : يحتمل أن يكون ذلك لشدة حرها أو لشدة بردها أو لشده قوتها، فتخطف الحيوان من الأرض، ثم تضربه على الأرض، فكل ذلك محمل.
وأما قوله :﴿نَجَّيْنَا هُودًا﴾ فاعلم أنه يجوز إتيان البلية على المؤمن وعلى الكافر معاً، وحينئذ تكون تلك البلية رحمة على المؤمن وعذاباً على الكافر، فأما العذاب النازل بمن يكذب الأنبياء عليهم السلام فإنه يجب في حكمة الله تعالى أن ينجي المؤمن منه، ولولا ذلك لما عرف كونه عذاباً على كفرهم، فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا :﴿نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه ﴾.
وأما قوله :﴿بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ ففيه وجوه : الأول : أراد أنه لا ينجو أحد وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلا برحمة من الله، والثاني : المراد من الرحمة : ما هداهم إليه من الإيمان بالله والعمل الصالح. الثالث : أنه رحمهم في ذلك الوقت، وميزهم عن الكافرين في العقاب.
وأما قوله :﴿وَنَجَّيْنَـاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ فالمراد من النجاة الأولى هي النجاة من عذاب الدنيا، والنجاة الثانية من عذاب القيامة، وإنما وصفه بكونه غليظاً تنبيهاً على أن العذاب الذي حصل لهم بعد موتهم بالنسبة إلى العذاب الذي وقعوا فيه كان عذاباً غليظاً، والمراد من قوله تعالى :﴿وَنَجَّيْنَـاهُم﴾ أي حكمنا بأنهم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ ولا يقعون فيه.


الصفحة التالية
Icon