اعلم أن العادة فيمن يدعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام أن يبتدىء بالدعوة إلى عبادة الله ثم يتبعه بدعوى النبوة لا بد وأن يطلبوا منه المعجزة وأمر صالح عليه السلام هكذا كان، يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة فدعا صالح ربه فخرجت الناقة كما سألوا.
واعلم أن تلك الناقة كانت معجزة من وجوه، الأول : أنه تعالى خلقها من الصخرة وثانيها : أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل. وثالثها : أنه تعالى خلقها حاملاً من غير ذكر. ورابعها : أنه خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة، وخامسها : ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر، وسادسها : أنه كان يحصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم، وكل من هذه الوجوه معجز قوي وليس في القرآن، إلا أن تلك الناقة كانت آية ومعجزة، فأما بيان أنها كانت معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه.
ثم قال :﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ﴾ والمراد أنه عليه السلام رفع عن القوم مؤنتها، فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرهم، لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها على ما روي أنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر، فإن الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه، بل يسعى في إخفاءها وإبطالها بأقصى الإمكان، فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها، فلهذا احتاط وقال :﴿وَلا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ﴾ وتوعدهم إن مسوها بسوء بعذاب قريب، وذلك تحذير شديد لهم من الإقدام على قتلها، ثم بين الله تعالى أنهم مع ذلك عقروها وذبحوها، ويحتمل أنهم عقروها لإبطال تلك الحجة، وأن يكون لأنها ضيقت الشرب على القوم، وأن يكون لأنهم رغبوا في شحمها ولحمها، وقوله :﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ يريد اليوم الثالث، وهو قوله :﴿تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ﴾ ثم بين تعالى أن / القوم عقروها، فعند ذلك قال لهم صالح عليه السلام :﴿تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ ﴾ ومعنى التمتع : التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس، ولما كان التمتع لا يحصل إلا للحي عبر به عن الحياة، وقوله :﴿فِى دَارِكُمْ﴾ فيه وجهان : الأول : أن المراد من الدار البلد، وتسمى البلاد بالديار، لأنه يدار فيها أي يتصرف يقال : ديار بكر أي بلادهم. الثاني : أن المراد بالديار الدنيا. وقوله :﴿ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ أي غير مكذب والمصدر قد يرد بلفظ المفعول كالمجلود والمعقول وبأيكم المفتون، وقيل غير مكذوب فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان، وذلك لأنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح عليه السلام بنزول العذاب، فقالوا وما علامة ذلك ؟
فقال : تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة، وفي الثاني محمرة، وفي الثالث مسودة، ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع، فلما رأوا وجوههم قد اسودت أيقنوا بالعذاب فاحتاطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع وهي الصيحة والصاعقة والعذاب.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٧٠
فإن قيل : كيف يعقل أن تظهر فيهم هذه العلامات مطابقة لقول صالح عليه السلام، ثم يبقون مصرين على الكفر.
قلنا : ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حد الجزم واليقين لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينية قطعية/ فقد انتهى الأمر إلى حد الإلجاء والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٧٠
٣٧١
اعلم أن مثل هذه الآية قد مضى في قصة عاد، وقوله :﴿وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِـاـاِذٍ ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : الواو في قوله :﴿وَمِنْ خِزْىِ﴾ واو العطف وفيه وجهان : الأول : أن يكون / التقدير : نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم وبقي العار فيه مأثوراً عنهم ومنسوباً إليهم، لأن معنى الخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيا من مثله فحذف ما حذف اعتماداً على دلالة ما بقي عليه. الثاني : أن يكون التقدير : نجينا صالحاً برحمة منا ونجيناهم من خزي يومئذ.
المسألة الثانية : قرأ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون وإحدى الروايات عن الأعشى ﴿يَوْمِـاـاِذٍ ﴾ بفتح الميم، وفي المعارج ﴿عَذَابِ يَوْمِـاـاِذ ﴾ (المعارج : ١١) والباقون بكسرالميم فيهما فمن قرأ بالفتح فعلى أن يوم مضاف إلى إذ وأن إذ مبني، والمضاف إلى المبني يجوز جعله مبنياً ألا ترى أن المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف والتنكير فكذا ههنا، وأما الكسر في إذ فالسبب أنه يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر تقول : جئتك إذ الشمس طالعة، فلما قطع عن المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثم كسرت الذال لسكونها وسكون التنوين، وأما القراءة بالكسر فعلى إضافة الخزي إلى اليوم ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنياً لأن هذه الإضافة غير لازمة.


الصفحة التالية
Icon