المسألة الثالثة : الخزي الذل العظيم حتى يبلغ حد الفضيحة ولذلك قال تعالى في المحاربين ﴿ذَالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا ﴾ (المائدة : ٣٣) وإنما سمى الله تعالى ذلك العذاب خزياً لأنه فضيحة باقية يعتبر بها أمثالهم ثم قال :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ﴾ وإنما حسن ذلك، لأنه تعالى بين أنه أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه، وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً ثم إنه تعالى بين ذلك الأمر فقال :﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ وفيه مسألتان :
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٧١
المسألة الأولى : إنما قال :﴿أَخْذُ﴾ ولم يقل أخذت لأن الصيحة محمولة على الصياح، وأيضاً فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، وقد سبق لها نظائر.
المسألة الثانية : ذكروا في الصيحة وجهين. قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد الصاعقة الثاني : الصيحة صيحة عظيمة هائلة سمعوها فماتوا أجمع منها فأصبحوا وهم موتى جاثمين في دورهم ومساكنهم، وجثومهم سقوطهم على وجوههم، يقال إنه تعالى أمر جبريل عليه السلام أن يصيح بهم تلك الصيحة التي ماتوا بها، ويجوز أن يكون الله تعالى خلقها، والصياح لا يكون إلا الصوت الحادث في حلق وفم وكذلك الصراخ، فإن كان من فعل الله تعالى فقد خلقه في حلق حيوان وإن كان فعل جبريل عليه السلام فقد حصل في فمه وحلقه، والدليل عليه أن صوت الرعد أعظم من كل صيحة ولا يسمى بذلك ولا بأنه صراخ.
فإن قيل : فما السبب في كون الصيحة موجبة للموت ؟
قلنا : فيه وجوه : أحدها : أن الصيحة العظيمة إنما تحدث عند سبب قوي يوجب تموج الهواء وذلك التموج الشديد ربما يتعدى إلى صماخ الإنسان فيمزق غشاء الدماغ فيورث الموت. والثاني : أنها شيء مهيب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النفسانية إذا قويت أوجبت الموت الثالث : أن الصيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برق شديد محرق، وذلك هو الصاعقة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما.
ثم قال تعالى :﴿فَأَصْبَحُوا فِى دِيَـارِهِمْ جَـاثِمِينَ﴾ والجثوم هو السكون يقال للطير إذا باتت في أوكارها أنها جثمت، ثم إن العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموت فوصف الله تعالى هؤلاء المهلكين بأنهم سكنوا عند الهلاك، حتى كأنهم ما كانوا أحياء وقوله :﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ ﴾ أي كأنهم لم يوجدوا، والمغنى المقام الذي يقيم الحي به يقال : غني الرجل بمكان كذا إذا أقام به.
ثم قال تعالى :﴿أَلا إِنَّ ثَمُودَا كَفرُوا رَبَّهُم أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾ قرأ حمزة وحفص عن عاصم ﴿أَلا إِنَّ ثَمُودَا ﴾ غير منون في كل القرآن، وقرأ الباقون بالتنوين ولثمود كلاهما بالصرف، والصرف للذهاب إلى الحي، أو إلى الأب الأكبر ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٧١
٣٧٥
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال النحويون : دخلت كلمة "قد" ههنا لأن السامع لقصص الأنبياء عليهم السلام يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع، ودخت اللام في "لقد" لتأكيد الخبر ولفظ ﴿جَآءَتْ رُسُلُنَآ﴾ جمع / وأقله ثلاثة فهذا يفيد القطع بحصول ثلاثة، وأما الزائد على هذا العدد فلا سبيل إلى إثباته إلا بدليل آخر، وأجمعوا على أن الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام، ثم اختلفت الروايات فقيل : أتاه جبريل عليه السلام ومعه اثنا عشر ملكاً على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن وقال الضحاك كانوا تسعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام، وهم الذين ذكرهم الله في سورة والذاريات في قوله :﴿هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ (الذاريات : ٢٤) وفي الحجر ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ (الحجر : ٥١).
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بالبشرى على وجهين : الأول : أن المراد ما بشره الله بعد ذلك بقوله :﴿فَبَشَّرْنَـاهَا بِإِسْحَـاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـاقَ يَعْقُوبَ﴾ الثاني : أن المراد منه أنه بشر إبراهيم عليه السلام بسلامة لوط وبإهلاك قومه.
وأما قوله :﴿قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌ ﴾ ففيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon