الوجه الأول : أن الملائكة قالوا :﴿إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ ﴾ فقال إبراهيم : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها ؟
قالوا : لا. قال : فأربعون قالوا : لا. قال : فثلاثون قالوا لا. حتى بلغ العشرة قالوا : لا. قال : أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها ؟
قالوا : لا. فعند ذلك قال : إن فيها لوطاً وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت فقال :﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِا إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّه وَأَهْلَه ا إِلا امْرَأَتَه كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ﴾ (العنكبوت : ٣١/ ٣٢).
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٧٧
ثم قال :﴿وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا﴾ فبان بهذا أن مجادلة إبراهيم عليه السلام، إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيما بينهم.
الوجه الثاني : يحتمل أن يقال إنه عليه السلام كان يميل إلى أن تلحقهم رحمة الله بتأخير العذاب عنهم رجاء أنهم أقدموا على الإيمان والتوبة عن المعاصي، وربما وقعت تلك المجادلات / بسبب أن إبراهيم كان يقول إن أمر الله ورد بإيصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور بل يقبل التراخي فاصبروا مدة أخرى، والملائكة كانوا يقولون إن مطلق الأمر يقبل الفور، وقد حصلت هناك قرائن دالة على الفور، ثم أخذ كل واحد منهم يقرر مذهبه بالوجوه المعلومة فحصلت المجادلة بهذا السبب، وهذا الوجه عندي هو المعتمد.
الوجه الثالث : في الجواب لعل إبراهيم عليه السلام سأل عن لفظ ذلك الأمر وكان ذلك الأمر مشروطاً بشرط فاختلفوا في أن ذلك الشرط هل حصل في ذلك القوم أم لا فحصلت المجادلة بسببه/ وبالجملة نرى العلماء في زماننا يجادل بعضهم بعضاً عند التمسك بالنصوص، وذلك لا يوجب القدح في واحد منها فكذا ههنا.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم، أما الحليم فهو الذي لا يتعجل بمكافأة غيره، بل يتأنى فيه فيؤخر ويعفو ومن هذا حاله فإنه يحب من غيره هذه الطريقة، وهذا كالدلالة على أن جداله كان في أمر متعلق بالحلم وتأخير العقاب، ثم ضم إلى ذلك ماله تعلق بالحلم وهو قوله :﴿أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ لأن من يستعمل الحلم في غيره فإنه يتأوه إذا شاهد وصول الشدائد إلى الغير فلما رأى مجيء الملائكة لأجل إهلاك قوم لوط عظم حزنه بسبب ذلك وأخذ يتأوه عليه فلذلك وصفه الله تعالى بهذه الصفة، ووصفه أيضاً بأنه منيب، لأن من ظهرت فيه هذه الشفقة العظيمة على الغير فإنه ينيب ويتوب ويرجع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم أو يقال : إن من كان لا يرضى بوقوع غيره في الشدائد فأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها كان أولى ولا طريق إلى صون النفس عن الوقوع في عذاب الله إلا بالتوبة والإنابة فوجب فيمن هذا شأنه يكون منيباً.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٧٧
٣٧٨
اعلم أن قوله :﴿يَـا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآ ﴾ معناه : أن الملائكة قالوا له : اترك هذه المجادلة لأنه / قد جاء أمر ربك بإيصال هذا العذاب إليهم وإذا لاح وجه دلالة النص على هذا الحكم فلا سبيل إلى دفعه فلذلك أمروه بترك المجادلة، ولما ذكروا ﴿إِنَّه قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾ ولم يكن في هذا اللفظ دلالة على أن هذا الأمر بماذا جاء لا جرم بين الله تعالى أنهم آتيهم عذاب غير مردود، أي عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده.
ثم قال :﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ وهؤلاء الرسل هم الرسل الذين بشروا إبراهيم بالولد عليهم السلام. قال ابن عباس رضي الله عنهما : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربع فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم وكانوا في غاية الحسن ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله وذكروا فيه ستة أوجه : الأول : أنه ظن أنهم من الإنس فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجزوا عن مقاومتهم. الثاني : ساءه مجيئهم لأنه ما كان يجد ما ينفقه عليهم وما كان قادراً على القيام بحق ضيافتهم. والثالث : ساءه ذلك لأن قومه منعوه من إدخال الضيف داره. الرابع : ساءه مجيئهم، لأنه عرف بالحذر أنهم ملائكة وأنهم إنما جاؤا لإهلاك قومه، والوجه الأول هو الأصح لدلالة قوله تعالى :﴿وَجَآءَه قَوْمُه يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ (هود : ٧٨) وبقي في الآية ألفاظ ثلاثة لا بد من تفسيرها :
اللفظ الأول : قوله :﴿سِى ءَ بِهِمْ﴾ ومعناه ساء مجيئهم وساء يسوء فعل لازم مجاوز يقال سؤته فسيء مثل شغلته فشغل وسررته فسر. قال الزجاج : أصله سوىء بهم إلا أن الواو سكنت ونقلت كسرتها إلى السين.


الصفحة التالية
Icon