الصفة الثالثة : مسومة، وهذه الصفة صفة للأحجار ومعناها المعلمة، وقد مضى الكلام فيه في تفسير قوله :﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ (آل عمران : ١٤) واختلفوا في كيفية تلك العلامة على وجوه : الأول : قال الحسن والسدي : كان عليها أمثال الخواتيم. الثاني : قال ابن صالح : رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. الثالث : قال ابن جريج : كان عليها سيما لا تشارك حجارة الأرض، وتدل على أنه تعالى إنما خلقها للعذاب. الرابع : قال الربيع : مكتوب على كل حجر اسم من رمى به.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٨٤
ثم قال تعالى :﴿عِندَ رَبِّكَ ﴾ أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا هو.
ثم قال :﴿وَمَا هِىَ مِنَ الظَّـالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ يعني به كفار مكة، والمقصود أنه تعالى يرميهم بها. عن أنس أنه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام عن هذا فقال : يعني عن ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. وقيل : الضمير في قوله :﴿وَمَا هِىَ﴾ للقرى. أي وما تلك القرى التي وقعت فيها هذه الواقعة من كفار مكة ببعيد، وذلك لأن القرى كانت في الشأم، وهي قريب من مكة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٨٤
٣٨٦
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة. واعلم أن مدين اسم ابن لإبراهيم عليه السلام، ثم صار اسماً للقبيلة، وكثير من المفسرين يذهب إلى أن مدين اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم عليه السلام والمعنى على هذا التقدير : وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف الأهل.
واعلم أنا بينا أن الأنبياء عليهم السلام يشرعون في أول الأمر بالدعوة إلى التوحيد، فلهذا قال شعيب عليه السلام :﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ﴾ ثم إنهم بعد الدعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ثم الأهم، ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال والميزان، دعاهم إلى ترك هذه العادة فقال :﴿وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ والنقص فيه على وجهين : أحدهما : أن يكون الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره. والآخر : أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من الواجب وذلك يوجب نقصان حق الغير، وفي القسمين حصل النقصان في حق الغير. ثم قال :﴿إِنِّى أَرَاـاكُم بِخَيْرٍ﴾ وفيه وجهان : الأول : أنه حذرهم من غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا فكأنه قال : اتركوا هذا التطفيف وإلا أزال الله عنكم ما حصل عندكم من الخير والراحة. والثاني : أن يكون التقدير أنه تعالى أتاكم بالخير الكثير والمال والرخص والسعة فلا حاجة بكم إلى هذا التطفيف. ثم قال :﴿وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ وفيه أبحاث :
البحث الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أخاف أي أعلم حصول عذاب يوم محيط وقال آخرون : بل المراد هو الخوف، لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية أن يحصل لهم العذاب ولما كان هذا التخويف قائماً فالحاصل هو الظن لا لعلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٨٦
البحث الثاني : أنه تعالى توعدهم بعذاب يحيط بهم بحيث لا يخرج منه أحد، والمحيط من صفة اليوم في الظاهر، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور كقوله :﴿هَـاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ (هود : ٧٧).
البحث الثالث : اختلفوا في المراد بهذا العذاب فقال بعضهم : هو عذاب يوم القيامة، لأنه اليوم الذي نصب لإحاطة العذاب بالمعذبين، وقال بعضهم : بل يدخل فيه عذاب الدنيا والآخرة / وقال بعضهم : بل المراد منه عذاب الاستئصال في الدنيا كما في حق سائر الأنبياء والأقرب دخول كل عذاب فيه وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدائرة بما في داخلها فينالهم من كل وجه وذلك مبالغة في الوعد كقوله :﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِه ﴾ (الكهف : ٤٢) ثم قال :﴿مُّحِيطٍ * وَيَـاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾.
فإن قيل : وقع التكرير في هذه الآية من ثلاثة أوجه لأنه قال أولاً ﴿وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ ثم قال :﴿أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ وهذا عين الأول. ثم قال :﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ﴾ وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير ؟
قلنا : إن فيه وجوهاً :
الوجه الأول : أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد/ والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام.


الصفحة التالية
Icon