واعلم أن جواب إن الشرطية محذوف والتقدير : أنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية وهي البينة والسعادات الجسمانية وهي المال والرزق الحسن فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه وأن أخالفه في أمره ونهيه، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم وذلك لأنهم قالوا له :﴿إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا فكأنه قال إنما أقدمت على هذا العمل، لأن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة، فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره وتكليفه. الثاني : أن يكون التقدير كأنه يقول لما ثبت عندي أن الاشتغال بعبادة غير الله والاشتغال بالبخس والتطفيف عمل منكر، ثم أنا رجل أريد إصلاح أحوالكم ولا أحتاج إلى أموالكم لأجل أن الله تعالى آتاني رزقاً حسناً فهل يسعني مع هذه الأحوال أن أخون في وحي الله تعالى وفي حكمه. الثالث : قوله :﴿إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى﴾ أي ما حصل عنده من المعجزة وقوله :﴿وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ﴾ المراد أنه لا يسألهم أجراً ولا جعلاً وهو الذي ذكره سائر الأنبياء من قولهم :﴿رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٩٠
المسألة الثانية : قوله :﴿وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ﴾ يدل على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته وأنه لا مدخل للكسب فيه، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى والإذلال من الله تعالى، وإذا كان الكل من الله تعالى فأنا لا أبالي بمخالفتكم ولا أفرح بموافقتكم، وإنما أكون على تقرير دين الله تعالى وإيضاح شرائع الله تعالى.
وأما الوجه الثاني : من الأجوبة التي ذكرها شعيب عليه السلام فقوله :﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَـاـاكُمْ عَنْه ﴾ قال صاحب "الكشاف" : يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه. فيقول : خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذهب عنه صادراً، ومنه قوله :﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَـاـاكُمْ عَنْه ﴾ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم فهذا بيان اللغة/ وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد، وذلك يدل على كمال العقل، وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح، فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أن الذي اختاره عقلي لنفسي لا بد وأن يكون أصوب الطرق وأصلحها والدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك البخس والنقصان يرجع حاصلهما إلى جزأين، التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى وأنا مواظب عليهما غير تارك لهما في شيء من الأحوال ألبتة فلما اعترفتم لي بالحلم والرشد وترون أني لا أترك هذه الطريقة، فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق، وأشرف الأديان والشرائع.
وأما الوجه الثالث : من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله :﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الاصْلَـاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾ والمعنى ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي، وقوله :﴿مَا اسْتَطَعْتُ ﴾ فيه وجوه : الأول : أنه ظرف والتقدير : مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكناً منه لا آلو فيه جهداً. والثاني : أنه بدل من الإصلاح، أي المقدار الذي استطعت منه. والثالث : أن يكون مفعولاً له أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم كانوا قد أقروا بأنه حليم رشيد، وإما أقروا له بذلك لأنه كان مشهوراً فيما بين الخلق بهذه الصفة، فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة، فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس، فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة، فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي، وذلك هو الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله :﴿وَمَا تَوْفِيقِى إِلا بِاللَّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ وبين بهذا أن توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٩٠


الصفحة التالية
Icon