الجواب : أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله، فإن الإنسان متى ادعى حرفة / أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمراً مشهوراً في الدنيا، فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال، فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل.
السؤال الثاني : لما كان نبياً فكيف قال : إني اتبعت ملة آبائي، والنبي لا بد وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه.
قلنا : لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير، وأيضاً لعله كان رسولاً من عند الله، إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام.
السؤال الثالث : لم قال :﴿مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ وحال كل المكلفين كذلك ؟
والجواب : ليس المراد بقوله :﴿مَا كَانَ لَنَآ﴾ أنه حرم ذلك عليهم، بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر، ونظيره قوله :﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ (مريم : ٣٥).
السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله :﴿مِن شَىْءٍ﴾.
الجواب : أن أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة، فقوله :﴿مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق، وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله.
ثم قال :﴿ذَالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ﴾ وفيه مسألة. وهي أنه قال :﴿مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾.
ثم قال :﴿ذَالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ فقوله :﴿ذَالِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك/ فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله. ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه، وفي حق الناس. ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون، ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان، حكي أن واحداً من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر، وقال : هل تشكر الله على الإيمان أم لا. فإن قلت : لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلاً له، فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة، فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة، فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلاً له، فذلك باطل، وصعب الكلام على بشر، فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال : إنا لا نشكر الله على الإيمان، بل الله يشكرنا عليه كما قال :﴿فَ أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ (الإسراء : ١٩) فقال بشر : لما صعب الكلام سهل.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٥٧
واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية، وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة. قال القاضي قوله :﴿ذَالِكَ﴾ إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب : أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق، وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى، والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل، فكان هذا تركاً للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد، لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو ههنا عدم الإشراك.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٥٧
٤٦٠
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿يَشْكُرُونَ * يَـاصَـاحِبَىِ السِّجْنِ﴾ يريد صاحبي في السجن، ويحتمل أيضاً أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحباً فمن عرف الله وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب.
المسألة الثانية : اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنياً على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات، ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناماً على صورة الأرواح الفلكية / ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان، فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام، فلهذا السبب شرع ههنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعاً من الدلائل والحجج.