المسألة التاسعة : قالت المعتزلة : الفاعل إنما يكون آتياً بالصواب والصلاح، تاركاً للقبيح والعبث إذا كان قادراً على كل المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات، فإنه إن لم يكن قادراً على الكل فربما فعل القبيح بسبب العجز، وإن لم يكن عالماً بكل المعلومات فربما فعل القبيح بسبب الجهل، وإن لم يكن غنياً عن كل الحاجات فربما فعل القبيح بسبب الحاجة، أما إذا كان قادراً على الكل عالماً الكل غنياً عن الكل امتنع منه الإقدام على فعل القبيح، فقوله :﴿الْعَزِيزُ﴾ إشارة إلى كمال القدرة، وقوله :﴿الْحَمِيدِ﴾ إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد في كل أفعاله، وذلك إنما يحصل إذا كان عالماً بالكل غنياً عن الكل فثبت بما ذكرنا أن صراط الله إنما كان موصوفاً بكونه شريفاً رفيعاً عالياً لكونه صراطاً مستقيماً للإله الموصوف بكونه عزيزاً حميداً/ فلهذا المعنى : وصف الله نفسه بهذين الوصفين في هذا المقام.
المسألة العاشرة : إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد، لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً، ثم بعد ذلك العلم بكونه غنياً عن الحاجات، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني، فلما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً بالكل غنياً عن الكل لا جرم قدم الله ذكر العزيز على ذكر الحميد والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٨
٦١
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر ﴿اللَّهِ﴾ مرفوعاً بالابتداء وخبره ما بعده، وقيل التقدير هو الله والباقون بالجر عطفاً على قوله :﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ وههنا بحث، وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا : الله جار مجرى الإسم العلم لذات الله تعالى وذهب قوم آخرون إلى أن لفظ مشتق / والحق عندنا هو الأول. ويدل عليه وجوه : الأول : أن الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه، فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد، والناطق مفهومه شيء ما حصل له النطق، فلو كان قولنا الله اسماً مشتقاً من معنى لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه، وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه، فلو كان قولنا الله لفظاً مشتقاً لكان مفهومه صالحاً لوقوع الشركة فيه، ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله موجباً للتوحيد، لأن المستثنى هو قولنا الله وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله جارٍ مجرى الاسم العلم. الثاني : أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولاً قولنا الله ثم وصفناه بسائر الصفات كقولنا هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول الرحمن الرحيم الله فعلمنا أن الله هو اسم علم للذات المخصوصة وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت. الثالث : أن ما سوى قولنا الله كلها دالة، إما على الصفات السلبية، كقولنا : القدوس السلام، أو على الصفات الإضافية، كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية كقولنا : العالم القادر، أو على ما يتركب من هذه الثلاثة، فلو لم يكن قولنا : الله اسماً للذات المخصوصة لكان جميع أسماء الله تعالى ألفاظاً دالة على صفاته، ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد، لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص. والرابع : قوله تعالى :﴿هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا﴾ (مريم : ٦٥) والمراد هل تعلم من اسمه الله غير الله، وذلك يدل على أن قولنا : الله اسم لذاته المخصوصة، وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن أن يذكر عقيبه الصفات كقوله تعالى :﴿هُوَ اللَّهُ الْخَـالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ (الحشر : ٢٤) فإما أن يعكس فيقال : هو الخالق المصور البارىء الله، فذلك غير جائز.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٦١


الصفحة التالية
Icon