وإذا ثبت هذا فنقول : الذين قرؤا :﴿اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله :﴿اللَّهِ﴾ مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبراً عنه وهذا هو الحق الصحيح، فأما الذين قرؤا :﴿اللَّهِ﴾ بالجر عطفاً على :﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ فهو مشكل لما بينا أن الترتيب الحسن أن يقال : الله الخالق. وإما أن يقال : الخالق الله فهذا لا يحسن، وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه : الأول : قال أبو عمرو بن العلاء : القراءة بالخفض على التقديم والتأخير، والتقدير : صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات. والثاني : أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولاً ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى كما يقال : مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه وهو بعينه نظير قوله :﴿صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ وتحقيق القول فيه : أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحاً محموداً إذا كان صراطاً للعالم القادر الغني، والله تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله :﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت / الشبهة في أن ذلك العزيز من هو ؟
فعطف عليها قوله :﴿اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ ﴾ إزالة لتلك الشبهة. الثالث : قال صاحب "الكشاف" : الله عطف بيان للعزيز الحميد، وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم. الرابع : قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا الله في أصل الوضع مشتق إلا أنه بالعرف صار جارياً مجرى الإسم العلم فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات فذلك لأجل أنه جعل اسم علم، وأما في هذه الآية حيث جعل وصفاً للعزيز الحميد، فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظاً مشتقاً فلا جرم بقي صفة. الخامس : أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزاً حميداً فلما قال :﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن، فأزال الله تعالى هذه الشبهة وقال :﴿اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ ﴾ أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٦١
المسألة الثانية : قوله :﴿اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ ﴾ يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو ألبتة، وذلك لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء، فلو حصل ذات الله تعالى في جهة فوق، لكان حاصلاً في السماء، وهذه الآية دالة على أن كل ما في السموات فهو ملكه، فلزم كونه ملكاً لنفسه وهو محال، فدلت هذه الآية على أنه منزه عن الحصول في جهة فوق.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد لأنه قال :﴿لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ ﴾ وأعمال العباد حاصلة في السموات والأرض فوجب القول بأن أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله تعالى، وإذا ثبت أنها مقدورة لله تعالى وجب وقوعها بقدرة الله تعالى، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره وذلك محال.
واعلم أن قوله تعالى :﴿لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ ﴾ يفيد الحصر والمعنى أن ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره وذلك يدل على أنه لا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال :﴿وَوَيْلٌ لِّلْكَـافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ والمعنى : أنهم لما تركوا عبادة الله تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضراً ولا نفعاً ويخلق ولا يخلق، ولا إدراك لها ولا فعل، فالويل ثم الويل لمن كان كذلك، وإنما خص هؤلاء بالويل، لأن المعنى يولولون من عذاب شديد ويصيحون منه ويقولون يا ويلاه. ونظيره قوله تعالى :﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ (الفرقان : ١٣) ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي / يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع : الأول : قوله :﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إن شئت جعلت "الذين" صفة الكافرين في الآية المتقدمة وإن شئت جعلته مبتدأ وجعلت الخبر قوله :﴿ أولئك ﴾ وإن شئت نصبته على الذم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٦١