المسألة الثانية : الاستحباب طلب محبة الشيء، وأقول إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محباً لذلك الشيء، مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور ولكنه يكره كونه محباً لهما/ أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محباً له، وأحب تلك المحبة فهذا هو نهاية المحبة فقوله :﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا﴾ يدل على كونهم في نهاية المحبة للحياة الدنيوية، ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلاً عن الحياة الأخروية، وعن معايب هذه الحياة العاجلة، ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة، وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب. فأحدها : أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام والغموم والهموم والمخاوف والأحزان. وثانيها : أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام، بخلاف اللذات الروحانية فإنها في أنفسها لذات وسعادات. وثالثها : أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والإنقراض والانقضاء. ورابعها : أنها حقيرة قليلة، وبالجملة فلا يحب هذه الحياة إلا من كان غافلاً عن معايبها وكان غافلاً عن فضائل الحياة الروحانية الأخروية، ولذلك قال تعالى :﴿وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ (الأعلى : ١٧) فهذه الكلمة جامعة لكل ما ذكرناه.
المسألة الثالثة : إنما قال :﴿يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ﴾ لأن فيه إضماراً، والتقدير : يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة، فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموماً إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذموماً حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة.
النوع الثاني : من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى :﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه ﴾.
واعلم أن من كان موصوفاً باستحباب الدنيا فهو ضال، ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل، فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين، وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين.
والنوع الثالث : من تلك الصفات قوله :﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ واعلم أن الإضلال على مرتبتين :
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٦١
المرتبة الأولى : أنه يسعى في صد الغير ومنعه من الوصول إلى المنهج القويم والصراط المستقيم.
والمرتبة الثانية : أن يسعى في إلقاء الشكوك والشبهات في المذهب الحق ويحاول تقبيح صفته بكل ما يقدر عليه من الحيل، وهذا هو النهاية في الضلال والإضلال، وإليه الإشارة بقوله :﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ قال صاحب "الكشاف" الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجاً، فحذف الجار وأوصل الفعل، ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب الثلاثة لأحوال هؤلاء الكفار قال في صفتهم :﴿ أولئك فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ﴾ وإنما وصف هذا الضلال بالبعد لوجوه :
الوجه الأول : أنا بينا أن أقصى مراتب الضلال هو الذي وصفه الله تعالى في هذه المرتبة فهذه المرتبة في غاية البعد عن طريق الحق، فإن شرط الضدين أن يكونا في غاية التباعد، مثل السواد والبياض، فكذا ههنا الضلال الذي يكون واقعاً على هذا الوجه يكون في غاية البعد عن الحق فإنه لا يعقل ضلال أقوى وأكمل من هذا الضلال.
والوجه الثاني : أن يكون المراد أنه يبعد ردهم عن طريقة الضلال إلى الهدى، لأنه قد تمكن ذلك في نفوسهم.
والوجه الثالث : أن يكون المراد من الضلال الهلاك، والتقدير : أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٦١
٦٤
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة :﴿كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (إبراهيم : ١) كان هذا إنعاماً على الرسول من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم، وإنعاماً أيضاً على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان، فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين. أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم، فإنه متى / كان الأمر كذلك، كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة ووقوفهم على حقائقها أسهل، وعن الغلط والخطأ أبعد. فهذا هو وجه النظم.


الصفحة التالية
Icon