المسألة الثانية : احتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توفيقية. قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل، وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم، وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف، فوجب حصولها بالإصطلاح.
المسألة الثالثة : زعم طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أن محمداً رسول الله لكن إلى العرب لا إلى سائر الطوائف، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين : الأول : أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا على العرب، ومن لا يكون عربياً لم يكن القرآن حجة عليه. الثاني : قالوا : إن قوله :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِه ﴾ (إبراهيم : ٤) المراد بذلك اللسان لسان العرب، وذلك يقتضي أن يقال : إنه ليس له قوم سوى العرب، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط.
والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد من ﴿قَوْمِه ﴾ أهل بلده، وليس المراد من ﴿قَوْمِه ﴾ أهل دعوته. والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى :﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (الأعراف : ١٥٨) بل إلى الثقلين، لأن التحدي كما وقع مع الإنس فقد وقع مع الجن بدليل قوله تعالى :﴿قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء : ٨٨).
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٦٤
المسألة الرابعة : تمسك أصحابنا بقوله تعالى :﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ على أن الضلال والهداية من الله تعالى، والآية صريحة في هذا المعنى. قال الأصحاب : ومما يؤكد هذا المعنى ما روي : أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما، فقال عليه السلام "ما هذا" فقال بعضهم : يا رسول الله يقول أبو بكر الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا، ويقول : عمر كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر، فتعرف الرسول صلى الله عليه وسلّم ما قاله أبو بكر، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه، ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه ثم قال :"أقضي بينكما كما قضى به اسرافيل بين جبريل وميكائيل/ قال جبريل مثل مقالتك يا عمر وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر فقضاء اسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما" قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن اجراؤها على ظاهرها وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى قال :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِه لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ والمعنى : أنا إنما أرسلنا كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم، فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم / على المقصود والغرض أكمل، وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين، فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود. والثاني : أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم، فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك، وما المقصود من إرسالك، وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل. الثالث : أنه إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى ومشيئته، وجب أن يكون الرضا به واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، وذلك لا يقوله عاقل. والرابع : أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله :﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (إبراهيم : ١) يدل على مذهب العدل، وأيضاً مؤخرة الآية يدل عليه، وهو قوله :﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح ومريداً لها، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله :﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد، فوجب المصير إلى التأويل، وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا ﴾ (البقرة : ٢٦) ولا بأس بإعادة بعضها، فالأول : أن المراد بالإضلال : هو الحكم بكونه كافراً ضالاً كما يقال : فلان يكفر فلاناً ويضلله، أي يحكم بكونه كافراً ضالاً، والثاني : أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار، والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة. والثالث : أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله، والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه. قال صاحب "الكشاف" : المراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف.


الصفحة التالية
Icon