جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٦٤
والجواب عن قولهم أولاً أن قوله تعالى :﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ﴾ لا يليق به أن يضلهم.
قلنا : قال الفراء : إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر، فإن كان الفعل الثاني مشاكلاً للأول نسقته عليه، وإن لم يكن مشاكلاً له استأنفته ورفعته. ونظيره قوله تعالى :﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ﴾ (التوبة : ٣٢) فقوله :﴿وَيَأْبَى اللَّهُ﴾ في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك، لأنه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله، فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف، ونظيره أيضاً قوله :﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُم وَنُقِرُّ فِى الارْحَامِ﴾ (الحج : ٥) ومن ذلك قولهم : أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه، ومثله قول الشاعر :
يريد أن يعربه فيعجمه
إذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال تعالى :﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ﴾ ثم قال :﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ﴾ ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله، وأقول تقرير هذا / الكلام من حيث المعنى، كأنه تعالى قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه/ ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى. أما قوله ثانياً : لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له : ما الفائدة في بيانك ودعوتك ؟
فنقول : يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالاً فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً فهل أقدر على جعل إلهك كاذباً، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً. وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضاً وارد عليه. وأما قوله ثالثاً : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قلنا : ويلزمك أيضاً على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله، وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا، لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً. وأما قوله رابعاً : إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى :﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (إبراهيم : ١) يدل على صحة الاعتزال فنقول : قد ذكرنا أن قوله :﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ يدل على صحة مذهب أهل السنة. وأما قوله خامساً : أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له. فنقول : وقد وصف نفسه بكونه عزيزاً والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالباً. فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة، وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٦٤
٦٦
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلّم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة، أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم وكيفية معاملة أقوامهم معهم تصبيراً للرسول عليه السلام على أذى قومه وإرشاداً له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم السلام فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام، فقال :﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِـاَايَـاتِنَآ﴾ قال الأصم : آيات موسى عليه السلام هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل وإنزال المن والسلوى. وقال الجبائي : أرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى قومه من بني إسرائيل بآياته وهي دلالاته وكتبه المنزلة عليه، وأمره أن يبين لهم الدين. وقال أبو مسلم الأصفهاني : إنه تعالى قال في صفة محمد صلى الله عليه وسلّم :﴿كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (إبراهيم : ١) وقال في حق موسى عليه السلام :﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ﴾ والمقصود : بيان أن المقصود من البعثة واحد في حق جميع الأنبياء عليهم السلام، وهو أن يسعوا في إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات.


الصفحة التالية
Icon