﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ والفائدة فيه أنهم أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله / ﴿وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ﴾ ثم لما فرغوا من أنفسهم أمروا أتباعهم بذلك وقالوا :﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولاً، ورأيت في كلام الشيخ أبي حامد الغزالي رحمه الله فصلاً حسناً وحاصله : أن الإنسان إما أن يكون ناقصاً أو كاملاً أو خالياً عن الوصفين، أما الناقص فإما أن يكون ناقصاً في ذاته ولكنه لا يسعى في تنقيص حال غيره، وإما أن يكون ناقصاً ويكون مع ذلك ساعياً في تنقيص حال الغير، فالأول : هو الضال، والثاني : هو الضال المضل، وأما الكامل فإما أن يكون كاملاً ولا يقدر على تكميل الغير وهم الأولياء، وإما أن يكون كاملاً ويقدر على تكميل الناقصين وهم الأنبياء ولذلك قال عليه السلام :"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" ولما كانت مراتب النقصان والكمال ومراتب الإكمال والإضلال غير متناهية بحسب الكمية والكيفية، لا جرم كانت مراتب الولاية والحياة غير متناهية بحسب الكمال والنقصان، فالولي هو الإنسان الكامل الذي لا يقوى على التكميل، والنبي هو الإنسان الكامل المكمل، ثم قد تكون قوته الروحانية النفسانية وافية بتكميل إنسانين ناقصين وقد تكون أقوى من ذلك فيفي بتكميل عشرة ومائة وقد تكون تلك القوة قاهرة قوية تؤثر تأثير الشمس في العالم فيقلب أرواح أكثر أهل العلم من مقام الجهل إلى مقام المعرفة ومن طلب الدنيا إلى طلب الآخرة، وذلك مثل روح محمد صلى الله عليه وسلّم، فإن وقت ظهوره كان العالم مملوءاً من اليهود وأكثرهم كانوا مشبهة ومن النصارى وهم حلولية ومن المجوس وقبح مذاهبهم ظاهر ومن عبدة الأوثان وسخف دينهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان فلما ظهرت دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم سرت قوة روحه في الأرواح فقلب أكثر أهل العالم من الشرك إلى التوحيد، ومن التجسيم إلى التنزيه، ومن الاستغراق في طلب الدنيا إلى التوجه إلى عالم الآخرة، فمن هذا المقام ينكشف للإنسان مقام النبوة والرسالة.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ﴾ إشارة إلى ما كانت حاصلة لهم من كمالات نفوسهم/ وقولهم في آخر الأمر، وعلى الله فليتوكل المتوكلون، إشارة إلى تأثير أرواحهم الكاملة في تكميل الأرواح الناقصة فهذه أسرار عالية مخزونة في ألفاظ القرآن، فمن نظر في علم القرآن وكان غافلاً عنها كان محروماً من أسرار علوم القرآن والله أعلم، وفي الآية وجه آخر وهو أن قوله :﴿وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَـانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ المراد منه أن الذين يطلبون سائر المعجزات وجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله تعالى لا عليها، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٧٦
وأما قوله في آخر الآية :﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ المراد منه الأمر بالتوكل على الله في دفع شر الناس الكفار وسفاهتهم، وعلى هذا التقدير فالتكرار غير حاصل لأن قوله :﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ﴾ وارد في موضعين مختلفين بحسب مقصودين متغايرين، وقيل أيضاً : الأول : ذكر لاستحداث التوكل. والثاني : للسعي في إبقائه وإدامته والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٧٦
٨٠
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأنبياء عليهم السلام، أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته، حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا :﴿لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ﴾ والمعنى : ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا. والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين، فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة.
فإن قيل : هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها.
قلنا : الجواب من وجوه :
الوجه الأول : أن أولئك الأنبياء عليهم السلام إنما نشأوا في تلك البلاد وكانوا من تلك / القبائل في أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار، بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا :﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ﴾.
الوجه الثاني : أن هذا حكاية كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين فيه فلعلهم توهموا ذلك مع أنه ما كان الأمر كما توهموه.


الصفحة التالية
Icon