الوجه الثالث : لعل الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أن المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ولا بأس أن يقال : إنهم كانوا قبل ذلك لوقت على دين أولئك الكفار.
الوجه الرابع : قال صاحب "الكشاف" : العود بمعنى الصيرورة كثير في كلام العرب.
الوجه الخامس : لعل أولئك الأنبياء كانوا قبل إرسالهم على ملة من الملل، ثم إنه تعالى أوحى إليهم بنسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي الأقوام على تلك الشريعة التي صارت منسوخة مصرين على سبيل الكفر، وعلى هذا التقدير فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء أن يعودوا إلى تلك الملة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٠
الوجه السادس : لا يبعد أن يكون المعنى : أو لتعودن في ملتنا، أي إلى ما كنتم عليه قبل إدعاء الرسالة من السكوت عن ذكر معايبة ديننا وعدم التعرض له بالطعن والقدح وعلى جميع هذه الوجوه فالسؤال زائل والله أعلم.
واعلم أن الكفار لما ذكروا هذا الكلام قال تعالى :﴿فَأَوْحَى ا إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّـالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الارْضَ مِنا بَعْدِهِمْ ﴾ قال صاحب "الكشاف" :﴿لَنُهْلِكَنَّ الظَّـالِمِينَ﴾ حكاية تقتضي إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه، وقرأ أبو حيوة : بالياء اعتباراً لأوحى فإن هذا اللفظ لفظ الغيبة ونظيره قولك أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن، والمراد بالأرض ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـارَهُمْ﴾ ونظيره قوله :﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا﴾ (الأعراف : ١٣٧). ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـارَهُمْ﴾ (الأحزاب : ٢٧) وعن النبي صلى الله عليه وسلّم :"من آذى جاره أورثه الله داره" واعلم أن هذه الآية تدل على أن من توكل على ربه في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه.
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ﴾ فقوله ذلك إشارة إلى أن ما قضى الله تعالى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أثر ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي وفيه وجوه : الأول : المراد موقفي وهو موقف الحساب، لأن ذلك الموقف موقف الله تعالى الذي يقف فيه عباده يوم القيامة، ونظيره قوله :﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه ﴾ (النازعات : ٤٠) وقوله :﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ﴾ (الرحمن : ٤٦) / الثاني : أن المقام مصدر كالقيامة، يقال : قام قياماً ومقاماً، قال الفراء : ذلك لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي إياه كقوله :﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ ﴾ (الرعد : ٣٣). الثالث :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى﴾ أي إقامتي على العدل والصواب فإنه تعالى لا يقضي إلا بالحق ولا يحكم إلا بالعدل وهو تعالى مقيم على العدل لا يميل عنه ولا ينحرف ألبتة. الرابع :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى﴾ أي مقام العائذ عندي وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول، الخامس :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى﴾ أي لم خافني، وذكر المقام ههنا مثل ما يقال : سلام الله على المجلس الفلاني العالي والمراد : سلام الله على فلان فكذا ههنا.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٠
ثم قال تعالى :﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾ قال الواحدي : الوعيد اسم من أوعد إيعاداً وهو التهديد. قال ابن عباس : خاف ما أوعدت من العذاب.
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً قوله :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى﴾ ثم عطف عليه قوله :﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾ فهذا يقتضي أن يكون الخوف من الله تعالى مغايراً للخوف من وعيد الله، ونظيره : أن حب الله تعالى مغاير لحب ثواب الله، وهذا مقام شريف عال في أسرار الحكمة والتصديق.
ثم قال :﴿وَاسْتَفْتَحُوا ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : للاستفتاح ههنا معنيان : أحدهما : طلب الفتح بالنصرة، فقوله :﴿وَاسْتَفْتَحُوا ﴾ أي واستنصروا الله على أعدائهم، فهو كقوله :﴿إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ (الأنفال : ١٩). والثاني : الفتح الحكم والقضاء، فقول ربنا :﴿وَاسْتَفْتَحُوا ﴾ أي واستحكموا وسألوه القضاء بينهم، وهو مأخوذ من الفتاحة وهي الحكومة كقوله :﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ (الأعراف : ١٩).


الصفحة التالية
Icon