إذا عرفت هذا فنقول : كلا القولين ذكره المفسرون. أما على القول الأول فالمستفتحون هم الرسل، وذلك لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم :﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا﴾ (نوح : ٢٦) وقال موسى :﴿رَبَّنَا اطْمِسْ﴾ (يونس : ٨٨) الآية. وقال لوط :﴿رَبِّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ (العنكبوت : ٣٠) وأما على القول الثالث : وهو طلب الحكمة والقضاء فالأولى أن يكون المستفتحون هم الأمم وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا، ومنه قول كفار قريش :﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ﴾ (الأنفال : ٣٢). وكقول آخرين ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ﴾ (العنكبوت : ٢٩).
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قوله :﴿وَاسْتَفْتَحُوا ﴾ معطوف على قوله :﴿فَأَوْحَى ا إِلَيْهِمْ﴾ وقرىء واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على قوله :﴿لَنُهْلِكَنَّ﴾ أي أوحى إليهم ربهم، وقال لهم :﴿لَنُهْلِكَنَّ﴾ وقال لهم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٠
ثم قال تعالى :﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إن قلنا : المستفتحون هم الرسل، كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ وهم قومهم ؛ وإن قلنا : المستفتحون هم الكفرة، فكان المعنى : أن الكفار استفتحوا على الرسل ظناً منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل.
المسألة الثانية : الجبار ههنا المتكبر على طاعة الله وعبادته. ومنه قوله تعالى :﴿وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ (مريم : ١٤) قال أبو عبيدة عن الأحمر : يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة، وحكى الزجاج : الجبرية والجبر بكسر الجيم والباء والنجبار والجبرياء. قال الواحدي : فهي ثمان لغات في مصدر الجبار، وفي الحديث أن امرأة حضرت النبي صلى الله عليه وسلّم فأمرها أمراً فأبت عليه فقال :"دعوها فإنها جبارة" أي مستكبرة، وأما العنيد فقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقه، قال النضر بن شميل : العنود الخلاف والتباعد والترك، وقال غيره : أصله من العند وهو الناحية يقال : فلان يمشي عنداً، أي ناحية، فمعنى عاند وعند. أخذ في ناحية معرضاً، وعاند فلان فلاناً إذا جانبه وكان منه على ناحية.
إذا عرفت هذا فنقول : كونه جباراً متكبراً إشارة إلى الخلق النفساني وكونه عنيداً إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق، وهو كونه مجانباً عن الحق منحرفاً عنه، ولا شك أن الإنسان الذي يكون خلقه هو التجبر والتكبر وفعله هو العنود وهو الانحراف عن الحق والصدق، كان خائباً عن كل الخيرات خاسراً عن جميع أقسام السعادات.
واعلم أنه تعالى لما حكم عليه بالخيبة ووصفه بكونه جباراً عنيداً، وصف كيفية عذابه بأمور : الأول : قوله :﴿مِّن وَرَآاـاِهِ جَهَنَّمُ﴾ وفيه إشكال وهو أن المراد : أمامه جهنم، فكيف أطلق لفظ الوراء على القدام والأمام ؟
وأجابوا عنه من وجوه : الأول : أن لفظ "وراء" اسم لما يوارى عنك، وقدام وخلف متوار عنك، فصح إطلاق لفظ "وراء" على كل واحد منهما. قال الشاعر :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضاً : الموت وراء كل أحد. الثاني : قال أبو عبيدة وابن السكيت : الوراء من الأضداد يقع على الخلف والقدام، والسبب فيه أن كل ما كان خلفاً فإنه يجوز أن ينقلب قداماً وبالعكس، فلا جرم جاز وقوع لفظ الوراء على القدام، ومنه قوله تعالى :﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ﴾ (الكهف : ٧٩) أي أمامهم، / ويقال : الموت من وراء الإنسان. الثاني : قال ابن الأنباري "وراء" بمعنى بعد. قال الشاعر :
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٠
وليس وراء الله للمرء مذهب
أي وليس بعد الله مذهب.
إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكم عليه بالخيبة في قوله :﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾.
ثم قال :﴿وَمِن وَرَآاـاِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ أي ومن بعده الخيبة يدخل جهنم.
النوع الثاني : مما ذكره الله تعالى من أحوال هذا الكافر قوله :﴿وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُه وَلا يَكَادُ يُسِيغُه ﴾ وفيه سؤالات :
السؤال الأول : علام عطف ﴿وَيُسْقَى ﴾.
الجواب : على محذوف تقديره : من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى من ماء صديد.
السؤال الثاني : عذاب أهل النار من وجوه كثيرة، فلم خص هذه الحالة بالذكر ؟
الجواب : يشبه أن تكون هذه الحالة أشد أنواع العذاب فخصص بالذكر مع قوله :﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾.
السؤال الثالث : ما وجه قوله :﴿مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾.


الصفحة التالية
Icon