الجواب : أنه عطف بيان والتقدير : أنه لما قال :﴿وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ﴾ فكأنه قيل : وما ذلك الماء فقال :﴿صَدِيدٍ﴾ والصديد ما يسيل جلود أهل النار. وقيل : التقدير ويسقى من ماء كالصديد. وذلك بأن يخلق الله تعالى في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة، وهو أيضاً يكون في نفسه صديداً، لأن كراهته تصد عن تناوله وهو كقوله :﴿وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾ (محمد : ١٥). ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَا بِئْسَ الشَّرَابُ﴾ (الكهف : ٢٩).
السؤال الرابع : ما معنى يتجرعه ولا يكاد يسيغه.
الجواب : التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار، ويقال : ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً وأساغه إساغة. واعلم أن (يكاد) فيه قولان :
القول الأول : أن نفيه إثبات، وإثباته نفي، فقوله :﴿وَلا يَكَادُ يُسِيغُه ﴾ أي ويسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول : ما كدت أقوم، أي قمت بعد إبطاء قال تعالى :﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ (البقرة : ٧) يعني فعلوا بعد إبطاء، والدليل على حصول الإساغة قوله تعالى :﴿يُصْهَرُ بِه مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ (الحج : ٢٠) ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة، وأيضاً فإن قوله :﴿يَتَجَرَّعُه ﴾ يدل على أنهم أساغوا الشيء بعد الشيء فكيف يصح أن يقال بعده إنه يسيغه ألبتة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٠
والقول الثاني : أن كاد للمقاربة فقول :﴿لا يَكَادُونَ﴾ لنفي المقاربة يعني : ولم يقارب أن يسيغه فكيف يحصل الإساغة كقوله تعالى :﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاـاهَا ﴾ (النور : ٤٠) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها.
فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على حصول الإساغة، فكيف الجمع بينه وبين هذا الوجه.
قلنا عنه جوابان : أحدهما : أن المعنى : لا يسيغ جميعه كأنه يجرع البعض وما ساغ الجميع. الثاني : أن الدليل الذي ذكرتم إنما دل على وصول بعض ذلك الشراب إلى جوف الكافر، إلا أن ذلك ليس بإساغة، لأن الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق بقبول النفس واستطابة المشروب والكافر يتجرع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه، أي لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة والله أعلم.
النوع الثالث : مما ذكره الله تعالى في وعيد هذا الكافر قوله :﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ (إبراهيم : ١٧) والمعنى : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات، ومع ذلك فإنه لا يموت وقيل من كل جزء من أجزاء جسده.
النوع الرابع : قوله :﴿وَمِن وَرَآاـاِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ وفيه وجهان : الأول : أن المراد من العذاب الغليظ كونه دائماً غير منقطع. الثاني : أنه في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله. قال المفضل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد، والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٠
٨٢
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة / إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعاً باطلاً، وذلك هو الخسران الشديد. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في ارتفاع قوله :﴿مَثَلُ الَّذِينَ﴾ وجوه : الأول : قال سيبويه : التقدير : وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، أو مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم، وقوله :﴿كَرَمَادٍ﴾ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم فقيل : أعمالهم كرماد. الثاني : قال الفراء : التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه وهو قوله :﴿أَعْمَـالَهُمْ﴾ ومثله قوله تعالى :﴿الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَه ﴾ (السجدة : ٧) أي خلق كل شيء، وكذا قوله :﴿وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ﴾ (الزمر : ٦٠) المعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. الثالث : أن يكون التقدير صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون، وماله مبذول. الرابع : أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله :﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ والتقدير : مثل أعمالهم وقوله :﴿كَرَمَادٍ﴾ هو الخبر. الخامس : أن يكون المثل صلة وتقديره : الذين كفروا أعمالهم.
المسألة الثانية : اعلم أن وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال، هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر، فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر ولا أثر، ثم اختلفوا في المراد بهذه الأعمال على وجوه :
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٢


الصفحة التالية
Icon