وأما النوع الأول : فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام :"التعظيم لأمر الله" ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفة الله تعالى في عالم الأرواح، وفي عالم الأجسام، وفي أحوال عالم الأفلاك والكواكب، وفي أحوال العالم السفلي، ويدخل فيه محبة الله تعالى والشوق إلى الله تعالى والمواظبة على ذكر الله تعالى والاعتماد بالكلية على الله تعالى، والانقطاع بالكلية عما سوى الله تعالى والاستقصاء في ذكر هذه الأقسام غير مطموع فيه لأنها أحوال غير متناهية.
وأما النوع الثاني : فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام :"والشفقة على خلق الله" / ويدخل فيه الرحمة والرأفة والصفح والتجاوز عن الذنوب، والسعي في إيصال الخير إليهم، ودفع الشر عنهم، ومقابلة الإساءة بالإحسان. وهذه الأقسام أيضاً غير متناهية وهي فروع ثابتة من شجرة معرفة الله تعالى فإن الإنسان كلما كان أكثر توغلاً في معرفة الله تعالى كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى وأفضل.
وأما الصفة الرابعة : فهي قوله تعالى :﴿تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينا بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ فهذه الشجرة أولى بهذه الصفة من الأشجار الجسمانية، لأن شجرة المعرفة موجبة لهذه الأحوال ومؤثرة في حصولها والسبب لا ينفك عن المسبب فأثر رسوخ شجرة المعرفة في أرض القلب أن يكون نظر بالعبرة كما قال :﴿فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ﴾ (الحشر : ٢) وأن يكون سماعه بالحكمة كما قال :﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا ﴾ (الزمر : ١٨) ونطقه بالصدق والصواب كما قال :﴿كُونُوا قَواَّمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى ا أَنفُسِكُمْ﴾ (النساء : ١٣٥) وقال عليه السلام :"قولوا الحق ولو على أنفسكم" وهذا الإنسان كلما كان رسوخ شجرة المعرفة في أرض قلبه أقوى وأكمل، كان ظهور هذه الآثار عنده أكثر، وربما توغل في هذا الباب فيصير بحيث كلما لاحظ شيئاً لاحظ الحق فيه، وربما عظم ترقيه فيه فيصير لا يرى شيئاً إلا وقد كان قد رأى الله تعالى قبله. فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى :﴿تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينا بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ وأيضاً فما ذكرناه إشارة إلى الإلهامات النفسانية والملكات الروحانية التي تحصل في جواهر الأرواح، ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة ولمحة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل، كثمرة هذه الشجرة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٩٣
وأما قوله :﴿بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ ففيه دقيقة عجيبة، وذلك لأن عند حصول هذه الأحوال السنية، والدرجات العالية، قد يفرح الإنسان بها من حيث هي هي، وقد يترقى فلا يفرح بها من حيث هي هي، وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى، وعند ذلك فيكون فرحه في الحقيقة بالمولى لا بهذه الأحوال، ولذلك قال بعض المحققين : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالفاني، ومن آثر العرفان لا للعرفان، بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول، فقد ظهر بهذا التقرير الذي شرحناه والبيان الذي فصلناه أن هذا المثال الذي ذكره الله تعالى في هذا الكتاب مثال هادٍ إلى عالم القدس، وحضرة الجلال، وسرادقات الكبرياء، فنسأل الله تعالى مزيد الاهتداء والرحمة إنه سميع مجيب، وذكر بعضهم في تقرير هذا المثال كلاماً لا بأس به، فقال : إنما مثل الله سبحانه وتعالى الإيمان بالشجرة، لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة، إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ، وأصل قائم، وأغصان عالية. كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : معرفة في القلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان. والله أعلم.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : في نصب قوله :﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ وجهان : الأول : أنه منصوب بمضمر والتقدير : جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير لقوله :﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا﴾. الثاني : قال ويجوز أن ينتصب مثلاً. وكلمة بضرب، أي ضرب كلمة طيبة مثلاً بمعنى جعلها مثلاً، وقوله :﴿كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾ خبر مبتدأ محذوف، والتقدير : هي كشجرة طيبة. الثالث : قال صاحب "حل العقد" أظن أن الأوجه أن يجعل قوله :﴿كَلِمَةَ﴾ عطف بيان، والكاف في قوله :﴿كَشَجَرَةٍ﴾ في محل النصب بمعنى مثل شجرة طيبة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٩٣


الصفحة التالية
Icon