جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٠
١٠٣
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى ألبتة حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان.
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أشياء : أحدها : قوله :﴿رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا﴾ والمراد : مكة آمناً ذا أمن.
فإن قيل : أي فرق بين قوله :(اجعل هذا بلداً آمناً) وبين قوله :﴿اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا﴾.
قلنا : سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فلا يخافون، وفي الثاني : أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف، ويحصل لها ضد تلك الصفة وهو الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة. وثانيها : قوله :﴿وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء ﴿وَاجْنُبْنِى﴾ وفيه ثلاث لغات جنبه واجنبه وجنبه. قال الفراء : أهل الحجاز يقول جنبني يجبني بالتخفيف. وأهل نجد يقولون جنبني شره وأجنبني شره، وأصله جعل الشيء عن غيره على جانب وناحية.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : الإشكال على هذه الآية من وجوه : أحدها : أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمناً، وما قبل الله دعاءه، لأن جماعة خربوا الكعبة وأغاروا على / مكة. وثانيها : أن الأنبياء عليهم السلام لا يعبدون الوثن ألبتة، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله أجنبني عن عبادة الأصنام. وثالثها : أنه طلب من الله تعالى أن لا يجعل أبناءه من عبدة الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه، ولأن كفار قريش كانوا من أولاده، مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام.
فإن قالوا : إنهم ما كانوا أبناء إبراهيم وإنما كانوا أبناء أبنائه، والدعاء مخصوص بالأبناء، فنقول : فإذا كان المراد من أولئك الأبناء أبناءه من صلبه، وهم ما كانوا إلا إسماعيل وإسحاق، وهما كانا من أكابر الأنبياء وقد علم أن الأنبياء لا يعبدون الصنم، فقد عاد السؤال في أنه ما الفائدة في ذلك الدعاء.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٣
والجواب عن السؤال الأول من وجهين : الأول : أنه نقل أنه عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة ذكر هذا الدعاء، والمراد منه : جعل تلك البلدة آمنة من الخراب. والثاني : أن المراد جعل أهلها آمنين، كقوله :﴿وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ﴾ (يوسف : ٨٢) أي أهل القرية، وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين، وعلى هذا التقدير فالجواب من وجهين :
الوجه الأول : ما اختصت به مكة من حصول مزيد من الأمن، وهو أن الخائف كان إذا التجأ إلى مكة أمن، وكان الناس مع شدة العداوة بينهم يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً، ومن ذلك أمن الوحش فإنهم يقربون من الناس إذا كانوا بمكة، ويكونون مستوحشين عن الناس خارج مكة، فهذا النوع من الأمن حاصل في مكة فوجب حمل الدعاء عليه.
والوجه الثاني : أن يكون المراد من قوله :﴿اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا﴾ أي بالأمر والحكم بجعله آمناً وذلك الأمر والحكم حاصل لا محالة.
والجواب : عن السؤال الثاني قال الزجاج : معناه ثبتني على اجتناب عبادتها كما قال :﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ (البقرة : ١٢٨) أي ثبتنا على الإسلام.
ولقائل أن يقول السؤال باق لأنه لأنه لما كان من المعلوم أنه تعالى يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب من عبادة الأصنام فما الفائدة في هذا السؤال والصحيح عندي في الجواب وجهان : الأول : أنه عليه السلام وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضماً للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب. والثاني : أن الصوفية يقولون : إن الشرك نوعان : شرك جلي وهو الذي يقول به المشركون، وشرك خفي وهو تعليق القلب بالوسايط وبالأسباب الظاهرة والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسايط ولا يرى متصرفاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله :﴿وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ﴾ المراد منه أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي والله أعلم بمراده.


الصفحة التالية
Icon