والمطلوب الثالث : قوله :﴿رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ فقوله :﴿مِن ذُرِّيَّتِى﴾ أي بعض ذريتي وهو إسمعيل ومن ولد منه ﴿بِوَادٍ﴾ هو وادي مكة ﴿غَيْرِ ذِى زَرْعٍ﴾ أي ليس فيه شيء من زرع، كقوله :﴿قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ﴾ (الزمر : ٢٨) بمعنى لا يحصل فيه اعوجاج عند بيتك المحرم، وذكروا في تسميته المحرم وجوها : الأول : أن الله حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرماً لمكانه. الثاني : أنه كان لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب. الثالث : سمي محرماً لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه. الرابع : أنه حرم على الطوفان أي امتنع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستعل عليه. الخامس : أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل. السادس : حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض وحفه بسبعة من الملائكة، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم، فرفع إلى السماء السابعة. السابع : حرم على عباده أن يقربوه بالدماء والأقذار وغيرها : روي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت له إسمعيل عليه السلام، فقالت سارة : كنت أرجو أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي، وقالت لإبراهيم : أبعدهما مني فنقلهما إلى مكة وإسمعيل رضيع، ثم رجع فقالت هاجر : إلى من تكلنا ؟
فقال إلى الله. ثم دعا الله تعالى بقوله ؛ ﴿رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ﴾ إلى آخر الآية ثم إنها عطشت وعطش الصبي فانتهت بالصبي إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"رحم الله أم إسمعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً" ثم إن إبراهيم عليه السلام عاد بعد كبر إسمعيل واشتغل هو مع إسمعيل برفع قواعد البيت. قال القاضي : أكثر الأمور المذكورة في هذه الحكاية بعيدة لأنه لا يجوز لإبراهيم عليه السلام أن ينقل ولده إلى حيث لا طعام ولا ماء مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا : إن الله أعلمه أنه يحصل هناك ماء وطعام، وأقول : أما ظهور ماء زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصاً لإسمعيل عليه السلام، لأن ذلك عندنا جائز خلافاً للمعتزلة وعند المعتزلة أنه معجزة لإبراهيم عليه السلام.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٧
ثم قال :﴿رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ﴾ واللام متعلقة بأسكنت أي أسكنت قوماً من ذريتي، وهم إسمعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة.
ثم قال :﴿فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قال الأصمعي هوى يهوي هوياً بالفتح إذا سقط من علو إلى سفل. وقيل :﴿تَهْوِى إِلَيْهِمْ﴾ تريدهم، وقيل : تسرع إليهم. وقيل : تنحط إليهم وتنحدر إليهم وتنزل، يقال : هوى الحجر من رأس الجبل يهوي إذا انحدر وانصب، وهوى الرجل إذا انحدر من رأس الجبل.
البحث الثاني : أن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا. أما الدين فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله تعالى. وأما الدنيا : فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات، فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم، ويكثر طعامهم ولباسهم.
البحث الثالث : كلمة ﴿مِنْ﴾ في قوله :﴿فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ﴾ تفيد التبعيض، والمعنى : فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم. قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى المجوس، ولكنه قال :﴿أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ﴾ فهم المسلمون.
ثم قال :﴿وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : أنه لم يقل : وارزقهم الثمرات، بل قال :﴿وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء اتصال بعض الثمرات إليهم.
البحث الثاني : يحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات وإنما يكون المراد : عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها.
ثم قال :﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإن إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات.
المطلوب الرابع : قوله :﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ ﴾.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٧


الصفحة التالية
Icon