الصفة الثالثة : قوله :﴿مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ﴾ والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع، فقوله :﴿مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ﴾ أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه، فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم.
الصفة الرابعة : قوله :﴿لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص، فقوله :﴿تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ﴾ لا يفيد كون هذا الشخوص دائماً وقوله :﴿لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ يفيد دوام هذا الشخوص، وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم.
الصفة الخامسة : قوله :﴿وَأَفْـاِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفاً فقيل : قلب فلان هواء إذا كان خالياً لا قوة فيه، والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ومن كل سرور، لكثرة ما فيه من الحزن، إذا عرفت هذه الصفات الخمسة فقد اختلفوا / في وقت حصولها فقيل : إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقيب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب، وقيل : إنها تحصل عند ما يتميز فريق عن فريق، والسعداء يذهبون إلى الجنة، والأشقياء إلى النار. وقيل : بل يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور، والأول أولى للدليل الذي ذكرناه، والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٩
١١٠
اعلم أن قوله :﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾ فيه أبحاث :
البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" :﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾ مفعول ثان لقوله :﴿وَأَنذِرِ﴾ وهو يوم القيامة.
البحث الثاني : الألف واللام في لفظ ﴿الْعَذَابَ﴾ للمعهود السابق، يعني : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب الذي تقدم ذكره وهو شخوص أبصارهم، وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم.
البحث الثالث : الإنذار هو التخويف بذكر المضار، والمفسرون مجمعون على أن قوله :﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾ هو يوم القيامة، وحمله أبو مسلم على أنه حال المعاينة، والظاهر يشهد بخلافه، لأنه تعالى وصف اليوم بأن عذابهم يأتي فيه وأنهم يسألون الرجعة، ويقال لهم :﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ﴾ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة. وحجة أبي مسلم : أن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى :﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَـاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّـالِحِينَ﴾ (المنافقون : ١٠) ثم حكى الله سبحانه ما يقول الكفار في ذلك اليوم، فقال :﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ﴾ واختلفوا في المراد بقوله :﴿أَخِّرْنَآ إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ فقال بعضهم : طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرطوا فيه، وقال : بل طلبوا الرجوع إلى حال التكليف بدليل قولهم : نجب دعوتك ونتبع الرسل، وأما على قول أبي مسلم فتأويل هذه الآية ظاهر فقال تعالى مجيباً لهم :﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ﴾ ومعناه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى، وهو قوله تعالى :﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾ (النحل : ٣٨) إلى غير ذلك مما كانوا يذكرونه من إنكار المعاد فقرعهم الله تعالى بهذا القول لأن التقريع بهذا الجنس أقوى، ومعنى : ما لكم من زوال، لا شبهة في أنهم كانوا يقولون لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى، ومن هذه الدار إلى دار المجازاة، لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت أو عن شباب إلى هرم أو عن فقر إلى غنى، ثم إنه تعالى زادهم تقريعاً آخر بقوله :﴿وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾ يعني سكنتم في مساكن الذين كفروا قبلكم، وهم قوم نوح وعاد وثمود، وظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر، فإذا لم يعتبر كان مستوجباً للذم والتقريع.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١٠
ثم قال :﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ وظهر لكم أن عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال.
فإن قيل : ولماذا قيل :﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ ولم يكن القوم يقرون بأنه تعالى أهلكهم لأجل تكذيبهم ؟


الصفحة التالية
Icon