قلنا : إنهم علموا أن أولئك المتقدمين كانوا طالبين للدنيا ثم إنهم فنوا وانقرضوا فعند هذا يعلمون أنه لا فائدة في طلب الدنيا، والواجب الجد والاجتهاد في طلب الدين/ والواجب على من عرف هذا أن يكون خائفاً وجلاً فيكون ذلك زجراً له هذا إذا قرىء بالتاء أما إذا قرىء بالنون فلا شبهة فيه لأن التقدير كأنه تعالى قال : أولم نبين لكم كيف فعلنا بهم، وليس كل ما بين لهم تبينوه.
أما قوله :﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامْثَالَ﴾ فالمراد ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الإبتداء وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله كثير. والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١٠
١١١
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة عقابهم أتبعها بذكر كيفية مكرهم فقال :﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله :﴿وَقَدْ مَكَرُوا ﴾ إلى ماذا يعود ؟
على وجوه : الأول : أن يكون الضمير عائداً إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وهذا القول الصحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات. والثاني : أن يكون المراد به قوم محمد صلى الله عليه وسلّم والدليل عليه قوله :﴿وَأَنذِرِ النَّاسَ﴾ (إبراهيم : ٤٥) يا محمد وقد مكر قومك مكرهم وذلك المكر هو الذي ذكره الله تعالى في قوله :﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ (الأنفال : ٣٠) وقوله :﴿مَكْرِهِمْ﴾ أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم. الثالث : أن المراد من هذا المكر ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور، وكان قد جوعها ورفع فوق الجوانب الأربعة من التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منهن قطعة لحم ثم إنه جلس مع حاجبه في ذلك التابوت فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الدنيا عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها فنكس تلك العصي التي علق عليها اللحم فسفلت النسور وهبطت إلى الأرض، فهذا هو المراد من مكرهم. قال القاضي : وهذا بعيد جداً لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خبر صحيح معتمد ولا حجة في تأويل الآية ألبتة.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ فيه وجهان : الأول : أن يكون المكر مضافاً إلى الفاعل كالأول. والمعنى : ومكتوب عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه. والثاني : أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول، والمعنى : وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون.
أما قوله تعالى :﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ فاعلم أنه قرأ الكسائي وحده ﴿لِتَزُولَ﴾ بفتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى منه، والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١١
أما القراءة الأولى : فمعناها أن مكرهم كان معداً لأن تزول منه الجبال، وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه، بل التعظيم والتهويل وهو كقوله :﴿تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّا وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ (مريم : ٩٠).
وأما القراءة الثانية : فالمعنى : أن لفظ "إن" في قوله ؛ ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ﴾ بمعنى "ما" واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل. والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ (آل عمران : ١٧٩). ﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران : ١٧٩) والجبال ههنا مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية / لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان. ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه ا ﴾ (إبراهيم : ٤٧) أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم. والمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد صلى الله عليه وسلّم/ ودلائل شريعته، وقرأ علي وعمرو :﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ﴾.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١١
١١١


الصفحة التالية
Icon