الوجه الأول : أن يكون المراد أنه متقدر بقدر الحاجة. قال القاضي : وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج إليه الناس وينتفعون به فينبت تعالى في الأرض ذلك المقدار، ولذلك أتبعه بقوله :﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـايِشَ﴾ لأن ذلك الرزق الذي يظهر بالنبات يكون معيشة لهم من وجهين : الأول : بحسب الأكل والانتفاع بعينه. والثاني : أن ينتفع بالتجارة فيه، والقائلون بهذا القول قالوا : الوزن إنما يراد لمعرفة المقدار فكان إطلاق لفظ الوزن لإرادة معرفة المقدار من باب اطلاق اسم السبب على المسبب قالوا : ويتأكد ذلك أيضاً بقوله تعالى :﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَه بِمِقْدَارٍ﴾ (الرعد : ٨) وقوله :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ (الحجر : ٢١).
والوجه الثاني : في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب والله تعالى إنما يخلق المعادن والنبات والحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم، فلا بد وأن يحصل من الأرض قدر مخصوص / ومن الماء والهواء كذلك، ومن تأثير الشمس والكواكب في الحر والبرد مقدار مخصوص، ولو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص، أو النقصان عنه لم تتولد المعادن والنبات والحيوان فالله سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٣٣
والوجه الثالث : في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون : فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة، وهذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسباً حسناً بعيداً عن اللغو والسخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة والعقل، وبالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن والتناسب، فقوله :﴿وَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ﴾ أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة ومطابقة المصلحة.
والوجه الرابع : في تفسير هذا اللفظ أن الشيء الذي ينبت من الأرض نوعان : المعادن والنبات : أما المعادن فهي بأسرها موزونة وهي الأجساد السبعة والأحجار والأملاح والزاجات وغيرها. وأما النبات فيرجع عاقبتها إلى الوزن، لأن الحبوب توزن، وكذلك الفواكه في الأكثر والله أعلم. وقوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـايِشَ﴾ فيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف وقوله :﴿وَمَن لَّسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ﴾ فيه قولان :
القول الأول : أنه معطوف على محل لكم، والتقدير : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين.
والقول الثاني : أنه عطف على قوله :﴿مَعَـايِشَ﴾ والتقدير : وجعلنا لكم معايش ومن لستم له برازقين، وعلى هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة :
الاحتمال الأول : أن كلمة "من" مختصة بالعقلاء فوجب أن يكون المراد من قوله :﴿وَمَن لَّسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ﴾ العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد، وتقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد، وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الخادم والمخدوم، والمملوك والمالك فإنه لولا أنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة، وأعطى القوة الغاذية والهاضمة، وإلا لم يحصل لأحد رزق.
والاحتمال الثاني : وهو قول الكلبي قال : المراد بقوله :﴿وَمَن لَّسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ﴾ الوحش والطير.
فإن قيل : كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل ؟
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٣٣
قلنا : الجواب عنه من وجهين : الأول : أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء، والدليل عليه / قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍا فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِه وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى ا أَرْبَعٍ ﴾ (النور : ٤٥). والثاني : أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله حيث قال :﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ (هود : ٦) فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالقها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة، فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل، ألا ترى أنه قال :﴿نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ﴾ (النحل : ١٨) فذكرها بصيغة جمع العقلاء، وقال في الأصنام :﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى ﴾ (الشعراء : ٧٧) وقال :﴿كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (الأنبياء : ٣٣) فكذا ههنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش والطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة وسمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية والجبال واشتد الحر في عام من الأعوام فحكى عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعاً رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال : فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت بحيث امتلأت الأودية منها.


الصفحة التالية
Icon