المسألة الثانية : تمسك بعض المعتزلة بهذه الآية في إثبات أن المعدوم شيء قال لأن قوله تعالى :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ﴾ يقتضي أن يكون لجميع الأشياء خزائن، وأن تكون تلك الخزائن حاصلة عند الله تعالى، ولا جائز أن يكون المراد من تلك الخزائن الموجودة عند الله تعالى هي تلك الموجودات من حيث إنها موجودة، لأنا بينا أن المراد من قوله تعالى :﴿وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ الإحداث والإبداع والإنشاء والتكوين، وهذا يقتضي أن يكون حصول تلك الخزائن عند الله متقدماً على حدوثها ودخولها في الوجود، وإذا بطل هذا وجب أن يكون المراد أن تلك الذوات والحقائق والماهيات كانت متقررة عند الله تعالى، بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات، ثم إنه تعالى أنزل بعضها أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود.
ولقائل أن يجيب عن ذلك بقوله : لا شك أن لفظ الخزائن إنما ورد ههنا على سبيل التمثيل والتخييل، فلم لا يجوز أن يكون المراد منه مجرد كونه تعالى قادراً على إيجاد تلك الأشياء وتكوينها وإخراجها من العدم إلى الوجود ؟
وعلى هذا التقدير يسقط الإستدلال، والمباحثات الدقيقة باقية، والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـاحَ لَوَاقِحَ﴾ فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في وصف الرياح بأنها لواقح. أقوال :
القول الأول : قال ابن عباس : الرياح لواقح للشجر وللسحاب، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وأصل هذا من قولهم : لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها فحملت، فكذلك الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب. قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية : يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب، ثم إنه يعصر السحاب ويدره كما تدر اللقحة فهذا هو تفسير إلقاحها للشجر فما ذكروه.
فإن قيل : كيف قال ﴿لَوَاقِحَ﴾ وهي ملقحة ؟
والجواب : ما ذهب إليه أبو عبيدة أن (لواقح) ههنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة وأنشد لسهيل يرثي أخاه :
لبيك يزيد يائس ذو ضراعة
وأشعث مما طوحته الطوائح
أراد المطوحات وقرر ابن الأنباري ذلك فقال : تقول العرب أبقل النبت فهل باقل يريدون هو مبقل وهذا بدل على جواز ورود لاقح عبارة عن ملقح.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٣٣
والوجه الثاني : في الجواب قال الزجاج : يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألحقت غيرها لأن / معناها النسبة وهو كما يقال : درهم وازن، أي ذو وزن، ورامح وسائف، أي ذو رمح وذو سيف قال الواحدي : هذا الجواب ليس بمغن، لأنه كان يجب أن يصح اللاقح. بمعنى ذات اللقاح وهذا ليس بشيء، لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة، ومن أفاد غيره اللقحة فله نسبة إلى اللقحة فصح هذا الجواب والله أعلم.
والوجه الثالث : في الجواب أن الريح في نفسها لاقح وتقريره بطريقين :
الطريق الأول : أن الريح حاصلة للسحاب، والدليل عليه قوله سبحانه :﴿وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه ا حَتَّى ا إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا﴾ (الأعراف : ٥٧) أي حملت فعلى هذا المعنى تكون الريح لاقحة بمعنى أنها حاملة تحمل السحاب والماء.
والطريق الثاني : قال الزجاج : يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير، كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير، وهذا كما تقول العرب : قد لقحت الحرب وقد نتجت ولداً أنكد يشبهون ما تشتمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الثانية : الريح هواء متحرك وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركاً لا بد له من سبب، وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته، وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال، فلم يبق إلا أن يقال : إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار، والأحوال التي تذكرها الفلاسفة في سبب حركة الهواء عند حدوث الريح قد حكيناها في هذا الكتاب مراراً فأبطلناها وبينا أنه لا يمكن أن يكون شيء منها سبباً لحدوث الرياح، فبقي أن يكون محركها هو الله سبحانه.


الصفحة التالية
Icon