أما الأول : فهو الإخلاص في حق الله تعالى، لأن الحامل له على ذلك الفعل طلب رضوان الله، وما جعل هذه الداعية مشوبة بداعية أخرى بل بقيت خالصة عن شوائب الغير، فهذا هو الإخلاص.
وأما الثاني : وهو الإخلاص في حق غير الله، فظاهر أن هذا لا يكون إخلاصاً في حق الله تعالى.
وأما الثالث : وهو أن يشتمل على الجهتين إلا أن جانب الله يكون راجحاً، فهذا يرجى أن يكون من المخلصين، لأن المثل يقابله المثل. فيبقى القدر الزائد خالصاً عن الشوب.
وأما الرابع والخامس : فظاهر أنه ليس من المخلصين في حق الله تعالى، والحاصل أن القسم الأول : إخلاص في حق الله تعالى قطعاً. والقسم الثاني : يرجى من فضل الله أن يجعله من قسم الإخلاص وأما سائر الأقسام فهو خارج عن الإخلاص قطعاً والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿قَالَ هَـاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ ففيه وجوه : الأول : أن إبليس لما قال :﴿إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ فلفظ المخلص يدل على الإخلاص، فقوله هذا عائد إلى الإخلاص، والمعنى : أن الإخلاص طريق علي وإلي، أي أنه يؤدي إلى كرامتي وثوابي، وقال الحسن : معناه هذا صراط إلي مستقيم، وقال آخرون : هذا صراط من مر عليه، فكأنه مر علي وعلى رضواني وكرامتي وهو كما يقال : طريقك علي. الثاني : أن الإخلاص طريق العبودية فقوله :﴿هَـاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم. الثالث : قال بعضهم : لما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته فقال تعالى :﴿هَـاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ﴾ أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي طريق علي مستقيم. الرابع : معناه : هذا صراط علي تقريره وتأكيده، وهو مستقيم حق وصدق، وقرأ يعقوب :﴿صِرَاطٌ عَلَىَّ﴾ بالرفع والتنوين على أنه صفة لقوله :﴿صِرَاطٌ﴾ أي هو علي بمعنى أنه رفيع مستقيم لا عوج فيه. قال الواحدي : معناه أن طريق التفويض إلى الله تعالى والإيمان بقضاء الله طريق رفيع مستقيم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٤٥
١٤٦
اعلم أن إبليس لما قال :﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الارْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ أوهم هذا الكلام أن له سلطاناً على عباد الله الذين يكونون من المخلصين، فبين تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء كانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين، بل من اتبع منهم / إبليس باختياره صار متبعاً له، ولكن حصول تلك المتابعة أيضاً ليس لأجل أن إبليس يقهره على تلك المتابعة أو يجبره عليها والحاصل في هذا القول : أن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطاناً، فبين تعالى كذبه فيه، وذكر أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس أنه قال :﴿وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ﴾ (إبراهيم : ٢٢) وقال تعالى في آية أخرى :﴿إِنَّه لَيْسَ لَه سُلْطَـانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـانُه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه وَالَّذِينَ هُم بِه مُشْرِكُونَ﴾ (النحل : ٩٩، ١٠٠) قال الجبائي : هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما يقوله العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة قال وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه، وفي الآية قول آخر، وهو أن إبليس لما قال :﴿إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الحجر : ٤٠) فذكر أنه لا يقدر على إغواء المخلصين صدقه الله في هذا الاستثناء فقال :﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ فلهذا قال الكلبي : العباد المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس.
واعلم أن على القول الأول يمكن أن يكون قوله :﴿إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ﴾ استثناء، لأن المعنى : أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فإن لك عليهم سلطاناً بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٤٦
وأما على القول الثاني فيمتنع أن يكون استثناء، بل تكون لفظة (إلا) بمعنى لكن، وقوله :﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ قال ابن عباس : يريد إبليس وأشياعه، ومن اتبعه من الغاوين.
ثم قال تعالى :﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾ وفيه قولان :
القول الأول : إنها سبع طبقات : بعضها فوق البعض وتسمى تلك الطبقات بالدركات، ويدل على كونها كذلك قوله تعالى :﴿إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ (النساء : ١٤٥).


الصفحة التالية
Icon