فإن قيل : أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون، أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل : لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان/ ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم، ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله :﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ﴾ يحتمل أن القائل لقوله :﴿ادْخُلُوهَا﴾ هو الله تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته، وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون، وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم :﴿ادْخُلُوهَا﴾.
والجواب عنه من وجهين : الأول : لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها :﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ﴾. الثاني : لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله :﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ﴾ المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة، والأمن من زوالها.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٤٩
ثم قال تعالى :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ / من قولهم : أغل في جوفه وتغلغل، أي إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم، وعن علي عليه السلام أنه قال : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، وحكى عن الحرث بن الأعور أنه كان جالساً عند علي عليه السلام إذ دخل زكريا بن طلحة فقال له علي : مرحباً بك يا ابن أخي، أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقهم :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ فقال الحرث : كلا بل الله أعدل من أن يجعلك وطلحة في مكان واحد. قال عليه السلام : فلمن هذه الآية ؟
لا أم لك يا أعور، وروي أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم من بعض، ثم يؤمر بهم إلى الجنة. وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش، والحقد والحسد، وقوله :﴿إِخْوَانًا﴾ نصب على الحال وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة والمخالصة كما قال :﴿الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزخرف : ٦٧) وقوله :﴿عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ﴾ السرير معروف والجمع أسرة وسرر قال أبو عبيدة يقال : سرر وسرر بفتح الراء وكذا كل فعيل من المضاعف فإن جمعه فعل وفعل نحو : سرر وسرر، وجدد وجدد قال المفضل : بعض تميم وكلب يفتحون، لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد، وقال بعض أهل المعاني : السرير مجلس رفيع مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. قال الليث : وسرير العيش مستقره الذي اطمأن إليه في حال سروره وفرحه قال ابن عباس : يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية، وقوله :﴿مُّتَقَـابِلِينَ﴾ التقابل التواجه، وهو نقيض التدابر، ولا شك أن المواجهة أشرف الأحوال وقوله :﴿لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ﴾ النصب الإعياء والتعب أي لا ينالهم فيها تعب :﴿وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ والمراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء، وكمالاً بلا نقصان، وفوزاً بلا حرمان.
واعلم أن للثواب أربع شرائط : وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٤٩
أما القيد الأول : وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ﴾.
وأما القيد الثاني : وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله :﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ﴾ لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال.
وأما القيد الثالث : وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر، فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية، وإما أن تكون جسمانية، أما المضار الروحانية فهي الحقد، والحسد، والغل/ والغضب، وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ﴾ إشارة إلى نفي المضار الروحانية وقوله :﴿لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ﴾ إشارة إلى نفي المضار الجسمانية.


الصفحة التالية
Icon