المسألة الأولى : هذا الكلام حق، لأن القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور : أحدها : أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه. وثانيها ؛ أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياح ذلك العبد إليه. وثالثها : أن يجهل كونه تعالى منزهاً عن البخل والحاجة والجهل فكل هذه الأمور سبب للضلال، فلهذا المعنى قال :﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّه إِلا الضَّآلُّونَ﴾.
المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو والكسائي :(يقنط) بكسر النون ولا تقطنوا كذلك، والباقون بفتح النون وهما لغتان : قنط يقنط، نحو ضرب يضرب، وقنط يقنط نحو علم يعلم، وحكى أبو عبيدة : قنط يقنط بضم النون، قال أبو علي الفارسي : قنط يقنط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات يدل على ذلك اجتماعهم في قوله :﴿مِنا بَعْدِ مَا قَنَطُوا ﴾ (الشورى : ٢٨) وحكاية أبي عبيدة تدل أيضاً على أن قنط بفتح النون أكثر، لأن المضارع من فعل يجيء على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق ويفسق ولا يجيء مضارع فعل على يفعل. والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٥١
١٥٤
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿فَمَا خَطْبُكُمْ﴾ سؤال عما لأجله أرسلهم الله تعالى، والخطب والشأن والأمر سواء : إلا أن لفظ الخطب أدل على عظم الحال.
فإن قيل : إن الملائكة لما بشروه بالولد الذكر العليم فكيف قال لهم بعد ذلك :﴿فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾.
قلنا : فيه وجوه : الأول : قال الأصم : معناه ما الأمر الذي توجهتم له سوى البشرى. الثاني : قال القاضي : إنه علم أنه لو كان كمال المقصود إيصال البشارة لكان الواحد من الملائكة كافياً، فلما رأى جمعاً من الملائكة علم أن لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة فلا جرم قال :﴿فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾. الثالث : يمكن أن يقال إنهم قالوا : إنا نبشرك بغلام عليم. في معرض إزالة الخوف والوجل، ألا ترى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما خاف قالوا له : لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. / ولو كان تمام المقصود من المجيء هو ذكر تلك البشارة لكانوا في أول ما دخلوا عليه ذكروا تلك البشارة، فلما لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الطريق أنه ما كان مجيئهم لمجرد هذه البشارة بل كان لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض فقال :﴿فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾.
ثم حكى تعالى عن الملائكة أنهم قالوا :﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ وإنما اقتصروا على هذا القدر لعلم إبراهيم عليه السلام بأن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لإهلاكهم واستئصالهم وأيضاً فقولهم :﴿إِلا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ يدل على أن المراد بذلك الإرسال إهلاك القوم.
أما قوله تعالى :﴿إِلا ءَالَ لُوطٍ﴾ فالمراد من آل لوط أتباعه الذين كانوا على دينه.
فإن قيل : قوله :﴿إِلا ءَالَ لُوطٍ﴾ هل هو استثناء منقطع أو متصل ؟
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٥٤
قلنا : قال صاحب "الكشاف" : إن كان هذا الاستثناء استثناء من (قوم) كان منقطعاً، لأن القوم موصوفون بكونهم مجرمين وآل لوط ما كانوا مجرمين، فاختلف الجنسان، فوجب أن يكون الاستثناء منقطعاً. وإن كان استثناء من الضمير في (مجرمين) كان متصلاً كأنه قيل : إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم كما قال :﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الذاريات : ٣٦) ثم قال صاحب "الكشاف" : ويختلف المعنى بحسب اختلاف هذين الوجهين، وذلك لأن آل لوط يخرجون في المنقطع من حكم الإرسال، لأن على هذا التقير الملائكة أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة وما أرسلوا إلى آل لوط أصلاً، وأما في المتصل فالملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، وأما قوله :﴿إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فاعلم أنه قرأ حمزة والكسائي خفيفة، والباقون مشددة وهما لغتان.
أما قوله تعالى :﴿أَجْمَعِينَ * إِلا امْرَأَتَه ﴾ قال صاحب "الكشاف" : هذا استثناء من الضمير المجرور في قوله :﴿لَمُنَجُّوهُمْ﴾ وليس ذلك من باب الاستثناء من الاستثناء، لأن الاستثناء من الإستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، كما لو قيل : أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته، وكما لو قال : المطلق لامرأته أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة، وكما إذا قال : المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً، فأما في هذه الآية فقد اختلف الحكمان، لأن قوله :﴿إِلا ءَالَ لُوطٍ﴾ متعلق بقوله :﴿أُرْسِلْنَآ﴾ أو بقوله ﴿مُّجْرِمِينَ﴾ وقوله :﴿إِلا امْرَأَتَه ﴾ قد تعلق بقوله : فكيف يكون هذا استثناء من استثناء.
وأما قوله :﴿امْرَأَتَه قَدَّرْنَآا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَـابِرِينَ﴾ ففيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon