المسألة الثانية ؛ قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار، لأنه تعالى قال :﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ وكلمة "على" للوجوب قال تعالى :﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ (آل عمران : ٩٧) ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضل أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه، وذلك لأنه تعالى لو كان فاعلاً للضلال لقال :﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ وعليه جائرها أو قال : وعليه الجائر فلما لم يقل كذلك بل قال في قصد السبيل أنه عليه، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه بل قال / ﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾ دل على أنه تعالى لا يضل عن الدين أحداً.
أجاب أصحابنا أن المراد على الله بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح فإما أن يبين كيفية الاغواء والإضلال فذلك غير واجب فهذا هو المراد، والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله :﴿وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ يدل على أنه تعالى ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان، لأن كلمة (لو) تفيد انتفاء شيء لانتفاء شيء غيره قوله ؛ ﴿وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ﴾ معناه : لو شاء هدايتكم لهداكم، وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم، وذلك يدل على المقصود.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٧٩
وأجاب الأصم عنه بأن المراد لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم، وهذا يدل على أن مشيئة الإلجاء لم تحصل.
وأجاب الجبائي بأن المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنة وإلى نيل الثواب لكنه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان، لأنه مقدور جميع المكلفين.
وأجاب بعضهم فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنة ابتداء على سبيل التفضل، إلا أنه تعالى عرفكم للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبين، فمن تمسك بها فاز بتلك المنازل ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب، والله أعلم.
واعلم أن هذه الكلمات قد ذكرناها مراراً وأطواراً مع الجواب فلا فائدة في الإعادة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٧٩
١٨٥
اعلم أن أشرف أجسام العالم السفلي بعد الحيوان النبات، فلما قرر الله تعالى الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات، أتبعه في هذه الآية بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات.
واعلم أن الماء المنزل من السماء هو المطر، وأما أن المطر نازل من السحاب أو من السماء فقد ذكرناه في هذا الكتاب مراراً، والحاصل : أن ماء المطر قسمان : أحدهما : هو الذي جعله الله تعالى شراباً لنا ولكل حي، وهو المراد بقوله :﴿لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ﴾ وقد بين الله تعالى في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة فقال :﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ ﴾ (الأنبياء : ٣٠).
فإن قيل : أفتقولون إن شرب الخلق ليس إلا من المطر، أو تقولون قد يكون منه وقد يكون من غيره، وهو الماء الموجود في قعر الأرض ؟
أجاب القاضي : بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف أن نشرب من غيره.
ولقائل أن يقول : ظاهر الآية يدل على الحصر، لأن قوله :﴿لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ﴾ يفيد الحصر لأن معناه منه لا من غيره.
إذا ثبت هذا فنقول : لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر يسكن هناك، والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين :﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّـاهُ فِى الارْضِ ﴾ (المؤمنون : ١٨) ولا يمتنع أيضاً في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر، والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله :﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ إلى آخر الآية، وفيه مباحث :
البحث الأول : ظاهر هذه الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة، وهذا إنما يصح لو كان المراد من الشجر الكلأ والعشب، وههنا قولان :
القول الأول : قال الزجاج : كل ما ثبت على الأرض فهو شجر وأنشد :
يطعمها اللحم إذا عز الشجر
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٨٥
يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة في هذه الآية المراد من الشجر الكلأ، وفي حديث عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ.
ولقائل أن يقول : إنه تعالى قال :﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ (الرحمن : ٦) والمراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق، ومن الشجر ما له ساق، هكذا قال المفسرون، وبالجملة فلما عطف الشجر على النجم دل على التغاير بينهما، ويمكن أن يجاب عنه بأنه عطف الجنس على النوع وبالضد مشهور وأيضاً فلفظ الشجر مشعر بالاختلاط، يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض وتشاجرت الرماح إذا اختلطت وقال تعالى :﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ (النساء : ٦٥) ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ، فوجب جواز إطلاق لفظ الشجر عليه.


الصفحة التالية
Icon