والجواب عنه من وجوه : الأول : أن الجماد قد يوصف بكونه ميتاً قال تعالى :﴿يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ (الروم : ١٩). والثاني : أن القوم لما وصفوا تلك الأصنام بالإلهية والمعبودية قيل لهم ؛ ليس الأمر كذلك، بل هي أموات ولا يعرفون شيئاً، فنزلت هذه العبارات على وفق معتقدهم. والثالث : أن يكون المراد بقوله :﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ الملائكة، وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله إنهم أموات لا بد لهم من الموت غير أحياء، أي غير باقية حياتهم :﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ أي لا علم لهم بوقت بعثهم والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٩٦
١٩٦
اعلم أنه تعالى لما زيف فيما تقدم طريقة عبدة الأوثان والأصنام وبين فساد مذهبهم بالدلائل القاهرة قال :﴿إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ ﴾ ثم ذكر الله تعالى ما لأجله أصر الكفار على القول بالشرك وإنكار التوحيد فقال :﴿فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ والمعنى أن الذين يؤمنون بالآخرة ويرغبون في الفوز بالثواب الدائم ويخافون الوقوع في العقاب الدائم إذا سمعوا الدلائل والترغيب والترهيب، خافوا العقاب فتأملوا وتفكروا فيما يسمعونه، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل، ويرجعون من الباطل إلى الحق، أما الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها فإنهم لا يرغبون في حصول الثواب ولا يرهبون من الوقوع في العقاب فيبقون منكرين لكل كلام يخالف قولهم ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم، فلا جرم يبقون مصرين على ما كانوا عليه من الجهل والضلال.
ثم قال تعالى :﴿لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ والمعنى أنه تعالى يعلم أن إصرارهم على هذه المذاهب الفاسدة ليس لأجل شبهة تصوروهاأو إشكال تخيلوه، بل ذلك لأجل التقليد والنفرة عن الرجوع إلى الحق والشغف بنصرة مذاهب الأسلاف والتكبر والنخوة. فلهذا قال :﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ وهذا الوعيد يتناول كل المتكبرين.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٩٦
١٩٨
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها.
فالشبهة الأولى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما احتج على صحة نبوة نفسه بكون القرآن معجزة طعنوا في القرآن وقالوا : إنه أساطير الأولين، وليس هو من جنس المعجزات، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن ذلك السائل من كان ؟
قيل هو كلام بعضهم لبعض، وقيل هو قول المسلمين لهم، وقيل : هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : كيف يكون تنزيل ربهم أساطير الأولين ؟
وجوابه من وجوه : الأول : أنه مذكور على سبيل السخرية كقوله تعالى عنهم :﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ﴾ (الشعراء : ٢٧)، وقوله :﴿وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (الحجر : ٦) وقوله :﴿يَـا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ (الزخرف : ٤٩). الثاني : أن يكون التقدير هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم هو أساطير الأولين. الثالث : يحتمل أن يكون المراد أن هذا القرآن بتقدير أن يكون مما أنزله الله لكنه أساطير الأولين ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والدقائق والحقائق.
واعلم أنه تعالى لما حكى شبههم قال :﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَـامَةِ ﴾ اللام في ليحملوا لام العاقبة، وذلك أنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين لأجل أن يحملوا الأوزار، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن ذكر هذه اللام كقوله :﴿ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ﴾ (القصص : ٨) وقوله :﴿كَامِلَةً﴾ معناه : أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئاً، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم، وأقول : هذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى، وقوله :﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم﴾ معناه : ويحصل للرؤساء مثل أوزار الأتباع، والسبب فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع كان له مثل أجر من اتبعه لا ينقص من أجورهم شيء وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع كان عليه مثل وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء".
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٩٨


الصفحة التالية
Icon