واعلم أنه ليس المراد منه أنه تعالى يوصل العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، وذلك لأن هذا لا يليق بعدل الله تعالى، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى ﴾ (النجم : ٣٩) وقوله :﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ (الإسراء : ١٥) بل المعنى : أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عقابه، حتى أن ذلك العقاب يكون مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، قال الواحدي : ولفظه :﴿مِّنْ﴾ في قوله، ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم﴾ ليست للتبعيض، لأنها لو كانت للتبعيض لخف عن الأتباع بعض أوزارهم، وذلك غير جائز، لقوله عليه السلام :"من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". ولكنها للجنس/ أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع. وقوله :﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ يعني أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال ثم إنه تعالى ختم الكلام بقوله :﴿أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ والمقصود المبالغة في الزجر.
فإن قيل : إنه تعالى لما حكى عن القوم هذه الشبهة لم يجب عليها، بل اقتصر على محض الوعيد ؛ فما السبب فيه ؟
قلنا : السبب فيه أنه تعالى بين كون القرآن معجزاً بطريقين : الأول : أنه صلى الله عليه وسلّم تحداهم بكل القرآن، وتارة بعشر سور، وتارة بسورة واحدة، وتارة بحديث واحد، وعجزوا عن المعارضة، وذلك يدل على كونه معجزاً. الثاني : أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهو قوله :﴿اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ (الفرقان : ٥) وأبطلها بقوله :﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ (الفرقان : ٦) ومعناه أن القرآن مشتمل على الأخبار عن الغيوب، وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالماً بأسرار السموات والأرض، فلما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين، وتكرر شرح هذين الطريقين مراراً كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٩٨
٢٠٠
اعلم أن المقصود من الآية المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار، وفي المراد بالذين من قبلهم قولان :
القول الأول : وهو قول الأكثر من المفسرين أن المراد منه نمروذ بن كنعان بنى صرحاً/ عظيماً ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. وقيل فرسخان، ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فالمراد بالمكر ههنا بناء الصرح لمقاتلة أهل السماء.
والقول الثاني : وهو الأصح، أن هذا عام في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالمحقين.
أما قوله تعالى :﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَـانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن الإتيان والحركة على الله محال، فالمراد أنهم لما كفروا أتاهم الله بزلازل قلع بها بنيانهم من القواعد والأساس.
المسألة الثانية : في قوله :﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَـانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ﴾ قولان :
القول الأول : أن هذا محض التمثيل، والمعنى أنهم رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فجعل الله تعالى حالهم في تلك المنصوبات مثل حال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فانهدم ذلك البناء، وضعفت تلك الأساطين، فسقط السقف عليهم. ونظيره قولهم : من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه.
والقول الثاني : أن المراد منه ما دل عليه الظاهر، وهو أنه تعالى أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته، والأول أقرب إلى المعنى.
أما قوله تعالى :﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾ ففيه سؤال : وهو أن السقف لا يخر إلا من فوقهم، فما معنى هذا الكلام.
وجوابه من وجهين : الأول : أن يكون المقصود بالتأكيد. والثاني : ربما خر السقف، ولا يكون تحته أحد، فلما قال :﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾ دل هذا الكلام على أنهم كانوا تحته، وحينئذ يفيد هذا الكلام أن الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها. وقوله :﴿وَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ إن حملنا هذا الكلام على محض التمثيل فالأمر ظاهر. والمعنى : أنهم اعتمدوا على منصوباتهم. ثم تولد البلاء منها بأعيانها، وإن حملناه على الظاهر فالمعنى أنه نزل ذلك السقف عليهم بغتة، لأنه إذا كان كذلك كان أعظم في الزجر لمن سلك مثل سبيلهم، ثم بين تعالى أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذا القدر، بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة، والخزي هو العذاب مع الهوان، وفسر تعالى ذلك الهوان بأنه تعالى يقول لهم :﴿أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـا قُّونَ فِيهِمْ ﴾ وفيه أبحاث :
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٠٠


الصفحة التالية
Icon