وأما قوله :﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾ فقد بينا في سورة الأنعام في قوله :﴿وَلَلدَّارُ الاخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ (الأنعام : ٣٢) بالدلائل القطعية العقلية حصول هذا الخير، ثم قال :﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ أي لنعم دار المتقين دار الآخرة، فحذفت لسبق ذكرها، هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، فإن وصلتها بما بعدها قلت : ولنعم دار المتقين جنات عدن فترفع جنات على أنها اسم لنعم، كما تقول : نعم الدار دار ينزلها زيد. وأما قوله :﴿جَنَّـاتُ عَدْنٍ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنها إن كانت موصولة بما قبلها، فقد ذكرنا وجه ارتفاعها، وأما إن كانت مقطوعة، فقال الزجاج : جنات عدن مرفوعة بإضمار "هي" كأنك لما قلت ولنعم دار المتقين/ قيل : أي دار هي هذه الممدوحة فقلت : هي جنات عدن، وإن شئت قلت : جنات عدن رفع بالإبتداء، ويدخلونها خبره، وإن شئت قلت : نعم دار المتقين خبره، والتقدير : جنات عدن نعم دار المتقين.
المسألة الثانية : قوله :﴿جَنَّـاتُ﴾ يدل على القصور والبساتين وقوله :﴿عَدْنٍ﴾ يدل على الدوام، وقوله :﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ ﴾ يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم، ثم إنه تعالى قال :﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ ﴾ وفيه بحثان : الأول : أن هذه الكلمة تدل على حصول كل الخيرات والسعادات، وهذا أبلغ من قوله :﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ ﴾ (الزخرف : ٧١) لأن هذين القسمين داخلان في قوله :﴿لَهُمْ فِيهَا مَا﴾ مع أقسام أخرى. الثاني : قوله :﴿لَهُمْ فِيهَا مَا﴾ يعني هذه الحالة لا تحصل إلا في الجنة، لأن قوله :﴿لَهُمْ فِيهَا مَا﴾ يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٠٣
ثم قال تعالى :﴿يَشَآءُونَا كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾ أي هكذا جزاء التقوى، ثم إنه تعالى عاد إلى وصف المتقين فقال :﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ طَيِّبِينَ ﴾ وهذا مذكور في مقابلة قوله :﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّـاـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ﴾ (النخل : ٢٨) وقوله :﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ طَيِّبِينَا يَقُولُونَ سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وقوله :﴿طَيِّبِينَ ﴾ كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة، وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة مبرئين عن الأخلاق المذمومة، ويدخل فيه كونهم مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس والطهارة، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت، وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح، وإن كان الحسن يقول : إنه وفاة الحشر، ثم بين تعالى أنه يقال لهم عند هذه الحالة :﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ فاحتج الحسن بهذا على أن المراد بذلك التوفي وفاة الحشر، لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، ومن ذهب إلى القول الأول وهم الأكثرون يقولون : إن الملائكة لما بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم، ادخلوا الجنة أي هي خاصة لكم كأنكم فيها.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٠٣
٢٠٣
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية لمنكري النبوة، فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلّم أن ينزل الله تعالى ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة فقال تعالى :﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ في التصديق بنبوتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك، ويحتمل أن يقال : إن القوم لما طعنوا في القرآن بأن قالوا : إنه أساطير الأولين، وذكر الله تعالى أنواع التهديد والوعيد لهم، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً وصدقاً وصواباً، عاد إلى بيان أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن الكفر بسبب البيانات التي ذكرناها، بل كانوا لا ينزجرون عن تلك الأقوال الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد وأتاهم أمر ربك وهو عذاب الاستئصال.
واعلم أن على كلا التقديرين فقد قال تعالى :﴿كَذَالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي كلام هؤلاء وأفعالهم يشبه كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم.
ثم قال :﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ والتقدير : كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم الهلاك المعجل وما ظلمهم الله بذلك، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بأن كفروا، وكذبوا الرسول فاستوجبوا ما نزل بهم.


الصفحة التالية
Icon