ثم قال :﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا عَمِلُوا ﴾ والمراد أصابهم عقاب سيئات ما عملوا ﴿وَحَاقَ بِهِم﴾ أي نزل بهم على وجه أحاط بجوانبهم :﴿مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ﴾ أي عقاب استهزائهم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٠٣
٢٠٦
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لمنكري النبوة، وتقريرها : أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة فقالوا : لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان، سواء جئت أو لم تجىء، ولو شاء الله الكفر فإنه يحصل الكفر سواء جئت أو لم تجىء، وإذا كان الأمر كذلك فالكل من الله تعالى، ولا فائدة في مجيئك وإرسالك، فكان القول بالنبوة باطلاً، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله :﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلا ءَابَآؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍا كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ (الأنعام : ١٤٨) واستدلال المعتزلة به مثل استدلالهم بتلك الآية. والكلام فيه استدلالاً واعتراضاً عين ما تقدم هناك فلا فائدة في الإعادة، ولا بأس بأن نذكر منه القليل فنقول : الجواب عن هذه الشبهة هي أنهم قالوا : لما كان الكل من الله تعالى كان بعثة الأنبياء عبثاً. فنقول : هذا اعتراض على الله تعالى، فإن قولهم : إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ودفع الكفر كانت بعثة الأنبياء غير جائزة من الله تعالى، فهذا القول جار مجرى طلب العلة في أحكام الله تعالى وفي أفعاله، وذلك باطل، بل الله تعالى أن يحكم في ملكه وملكوته ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا يجوز أن يقال له : لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك ؟
والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح في آخر هذه الآية بهذا المعنى فقال :﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا ﴾ فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم، وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٠٦
ثم قال :﴿الطَّـاغُوتَا فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ ﴾ والمعنى : أنه تعالى وإن أمر الكل بالإيمان، ونهى الكل عن الكفر، إلا أنه تعالى هدى البعض وأضل البعض، فهذه سنة قديمة لله/ تعالى مع العباد، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر، ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض. ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلهاً منزهاً عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجباً للجهل والضلال والبعد عن الله فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن، لا لأنهم كذبوا في قولهم :﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِه ﴾ بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل، فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن. فهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب. وأما من تقدمنا من المتكلمين والمسفرين فقد ذكروا فيه وجهاً آخر فقالوا : إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب عليه السلام له :﴿نَشَـا ؤُا ا إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ (هود : ٨٧) ولو قالوا ذلك معتقدين لكانوا مؤمنين. والله أعلم.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما حكى هذه الشبهة قال :﴿كَذَالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي هؤلاء للكفار ألداً كانوا متمسكين بهذه الشبهة.
ثم قال :﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ﴾ أما المعتزلة فقالوا : معناه أن الله تعالى ما منع أحداً من الإيمان وما أوقعه في الكفر، والرسل ليس عليهم إلا التبليغ، فلما بلغوا التكاليف وثبت أنه تعالى ما منع أحداً عن الحق كانت هذه الشبهة ساقطة. أما أصحابنا فقالوا : معناه أنه تعالى أمر الرسل بالتبليغ. فهذا التبليغ واجب عليهم، فأما أن الإيمان هل يحصل أم لا يحصل فذلك لا تعلق للرسول به، ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في بيان أن الهدي والضلال من الله بقوله :﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّـاغُوتَ ﴾ وهذا يدل على أنه تعالى كان أبداً في جميع الملل والأمم آمراً بالإيمان وناهياً عن الكفر.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٠٦


الصفحة التالية
Icon