فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ ﴾ والمعنى : أن عادة الله تعالى من أول زمان الخلق والتكليف أنه لم يبعث رسولاً إلا من البشر، فهذه العادة مستمرة لله سبحانه وتعالى، وطعن هؤلاء الجهال بهذا السؤال الركيك أيضاً طعن قديم فلا يلتفت إليه.
المسألة الثانية : دلت الآية على أنه تعالى ما أرسل أحداً من النساء، ودلت أيضاً على أنه ما أرسل ملكاً، لكن ظاهر قوله :﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلا﴾ (فاطر : ١) يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الملائكة، فكان ظاهر هذه الآية دليلاً على أنه ما أرسل رسولاً من الملائكة إلى الناس. قال القاضي : وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء عليهم السلام إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة. ثم قال القاضي : لعله أراد أن الملك الذي يرسل إلى الأنبياء عليهم السلام بحضرة أممهم، لأنه إذا كان كذلك فلا بد من أن يكون أيضاً بصورة الرجال، كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة، وإنما قلنا ذلك لأن المعلوم من حال الملائكة أن عند إبلاغ الرسالة من الله تعالى إلى الرسول قد يبقون على صورتهم الأصلية الملكية، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين، وعليه تأولوا قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ (النجم : ١٣) ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام أتبعه بقوله :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٣
المسألة الأولى : في المراد بأهل الذكر وجوه : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أهل التوراة، والذكر هو التوراة. والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنا بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ (الأنبياء : ١٠٥) يعني التوراة. الثاني : قال الزجاج : فاسألوا أهل الكتب الذين يعرفون معاني كتب الله تعالى/ فإنهم يعرفون أن الأنبياء كلهم بشر، والثالث : أهل الذكر أهل العلم بأخبار الماضين، إذ العالم بالشيء يكون ذاكراً له. والرابع : قال الزجاج : معناه سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق. وأقول : الظاهر أن هذه الشبهة وهي قولهم : الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحداً من البشر إنما تمسك بها كفار مكة، ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله بأن يرجعوا في هذه المسألة إلى اليهود والنصارى ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها، فإن اليهودي والنصراني لا بد لهما من تزييف هذه الشبهة وبيان سقوطها.
المسألة الثانية : اختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد ؟
منهم من حكم بالجواز/ واحتج بهذه الآية فقال : لما لم يكن أحد المجتهدين عالماً وجب عليه الرجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالماً لقوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى ﴾ فإن لم يجب فلا أقل من الجواز.
المسألة الثالثة : احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالماً بحكمها لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالماً بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالماً بها لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة لما وجب عليه سؤال العالم لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بواسطة القياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية فوجب أن لا يجوز. والله أعلم.
وجوابه : أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة، والإجماع أقوى من هذا الدليل، والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿بِالْبَيِّنَـاتِ وَالزُّبُرِ ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في الجالب لهذه الباء وجوهاً : الأول : أن التقدير : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم، وأنكر الفراء ذلك وقال : إن صلة ما قبل إلا لا يتأخر إلى بعد، والدليل عليه : أن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته، فما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه. الثاني : أن التقدير : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر، وعلى هذا التقدير فقوله :﴿بِالْبَيِّنَـاتِ وَالزُّبُرِ ﴾ متعلق بالمستثنى. والثالث : أن الجالب لهذا الباء محذوف، والتقدير أرسلناهم بالبينات وهذا قول الفراء. قال : ونظيره ما مر إلا أخوك بزيد ما مر إلا أخوك ثم يقول مر بزيد. الرابع : أن يقال : الذكر بمعنى العلم، والتقدير فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون. الخامس : أن يكون التقدير : إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر فاسألوا أهل الذكر.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٣


الصفحة التالية
Icon