المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿بِالْبَيِّنَـاتِ وَالزُّبُرِ ﴾ لفظة جامعة لكل ما تكامل به الرسالة، لأن مدار أمرها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات وعلى التكاليف التي يبلغها الرسول من الله تعالى إلى العباد وهي الزبر.
ثم قال تعالى :﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ظاهر هذا الكلام يقتضي أن هذا الذكر مفتقر إلى بيان رسول الله والمفتقر إلى البيان مجمل، فظاهر هذا النص يقتضي أن القرآن كله مجمل، فلهذا المعنى قال بعضهم متى وقع التعارض بين القرآن وبين الخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والدليل عليه هذه الآية، والخبر مبين له بدلالة هذه الآية، والمبين مقدم على المجمل.
والجواب : أن القرآن منه محكم، ومنه متشابه، والمحكم يجب كونه مبيناً فثبت أن القرآن ليس كله مجملاً بل فيه ما يكون مجملاً فقوله :﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ محمول على المجملات.
المسألة الثانية : ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلّم هو المبين لكل ما أنزله الله تعالى على المكلفين، فعند هذا قال نفاة القياس لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول بيان كل ما أنزله الله تعالى على المكلفين من الأحكام، لاحتمال أن بين المكلف ذلك الحكم بطريقة القياس، ولما دلت هذه الآية على أن المبين لكل التكاليف والأحكام، هو الرسول صلى الله عليه وسلّم علمنا أن القياس ليس بحجة.
وأجيب عنه بأنه صلى الله عليه وسلّم لما بين أن القياس حجة، فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس، كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلّم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٣
ثم قال تعالى :﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّـاَاتِ﴾ المكر في اللغة عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، ولا بد ههنا من إضمار، والتقدير : المكرات السيئات، والمراد أهل مكة ومن حول المدينة. قال الكلبي : المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه على سبيل الخفية، ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أموراً أربعة : الأول : أن يخسف الله بهم الأرض كما خسف بقارون. الثاني : أن يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، والمراد أن يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط. والثالث : أن يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، وفي تفسير هذا التقلب وجوه : الأول : أنه يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم، فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر وهم لا يعجزون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله حيث كانوا، وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى :﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَـادِ﴾ (آل عمران : ١٩٦). وثانيهما : تفسير هذا اللفظ بأنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم. وثالثها : أن يكون المعنى أو يأخذهم في حال ما ينقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل قسراً كما قال :﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى ا أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ (يس : ٦٦) وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله :﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الامُورَ﴾ (التوبة : ٤٨) فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
والنوع الرابع : من الأشياء التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية على سبيل التهديد قوله تعالى :﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ وفي تفسير التخوف قولان :
القول الأول : التخوف تفعل من الخوف، يقال خفت الشيء وتخوفته والمعنى أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أولاً بل يخيفهم أولاً ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك فرقة فتخاف التي تليها فيكون هذا أخذاً ورد عليهم بعد أن يمر بهم قبل ذلك زماناً طويلاً في الخوف والوحشة.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٣
والقول الثاني : أن التخوف هو التنقص قال ابن الأعرابي يقال : تخوفت الشيء وتخفيته إذا تنقصته، وعن عمر أنه قال على المنبر : ما تقولون في هذه الآية ؟
فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال عمر : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟
قال : نعم. قال شاعرنا وأنشد :
تخوف الرحل منها تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر : أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا : وما ديواننا ؟
قال شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم.


الصفحة التالية
Icon