إذا عرفت هذا فنقول : هذا التنقص يحتمل أن يكون المراد منه ما يقع في أطراف بلادهم كما قال تعالى :﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ ﴾ (الأنبياء : ٤٤) والمعنى أنه تعالى لا يعاجلهم بالعذاب ولكن ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم، ويحتمل أن يكون المراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلاً قليلاً حتى يأتي الفناء على الكل فهذا تفسير هذه الأمور الأربعة، والحاصل أنه تعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة واحدة حال ما لا يكونون عالمين بعلاماتها ودلائلها، أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم ختم الآية بقوله :﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُافٌ رَّحِيمٌ﴾ والمعنى أنه يمهل في أكثر الأمور لأنه رؤوف رحيم فلا يعاجل بالعذاب.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٣
٢١٩
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما خوف المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام، ليظهر لهم أن مع كمال هذه القدرة القاهرة، والقوة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأقسام الأربعة.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي :﴿أَلَمْ تَرَوْا ﴾ بالتاء على الخطاب، وكذلك في سورة العنكبوت :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ا ﴾ (العنكبوت : ١٩) بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء فيهما كناية عن الذين مكروا السيئات، وأيضاً أن ما قبله غيبة وهو قوله :﴿أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الارْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا﴾ (النحل : ٤٥، ٤٦) فكذا قوله :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا ﴾ وقرأ أبو عمرو وحده : بالتاء والباقون بالياء، وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع.
المسألة الثالثة : قوله :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ﴾ لما كانت الرؤية ههنا بمعنى النظر وصلت بإلى، لأن المراد به الاعتبار ولاعتبار لا يكون بنفس الرؤية حتى يكون معها نظر إلى الشيء وتأمل لأحواله، وقوله :﴿إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ﴾ قال أهل المعاني : أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، ولفظ الآية يشعر بهذا القيد، لأن قوله :﴿مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلَـالُه عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَآاـاِلِ﴾ يدل على أن ذلك الشيء كثيف يقع له ظل على الأرض. وقوله :﴿يَتَفَيَّؤُا ظِلَـالُه ﴾ إخبار عن قوله :﴿شَىْءٍ﴾ وليس بوصف له، ويتفيأ يتفعل من الفيء يقال : فاء الظل يفيء فيئاً إذا رجع وعاد بعد ما نسخه ضياء الشمس، وأصل الفيء الرجوع، ومنه فيء المولي وذكرنا ذلك في قوله تعالى :﴿فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (البقرة : ٢٢٦) وكذلك فيء المسلمين لما يعود على المسلمين من مال من خالف دينهم، ومنه قوله تعالى :﴿مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ (الحشر : ٦) وأصل هذا كله من الرجوع.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٩
إذا عرفت هذا فنقول : إذا عدي فاء فإنه يعدى إما بزيادة الهمزة إو بتضعيف العين. أما التعدية بزيادة الهمزة كقوله :﴿مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ﴾ وأما بتضعيف العين فكقوله فيأ الله الظل فتفيأ وتفيأ مطاوع فيأ. قال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعدما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس كمال قال الشاعر :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
ولا الفيء من برد العشي تذوق قال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء/ وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل، ومنهم من أنكر ذلك، فإن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي :
فلام الإله يغدو عليهم
وفيؤ الغروس ذات الظلال فهذا الشعر قد أوقع فيه لفظ الفيء على ما لم تنسخه الشمس، لأن ما في الجنة من الظل ما صحل بعد أن كان زائلاً بسبب نور الشمس وتقول العرب في جمع في أفياء وهي للعدد القليل/ وفيؤ للكثير كالنفوس والعيون، وقوله :﴿ظِلَـالُه ﴾ أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال، وإنما حسن هذا، لأن الذي عاد إليه الضمير وإن كان واحداً في اللفظ وهو قوله إلى ما خلق الله، إلا أنه كثير في المعنى، ونظيره قوله تعالى :﴿لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِه ﴾ (الزخرف : ١٣) فأضاف الظهور وهو جمع، إلى ضمير مفرد، لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو قوله :﴿مَا تَرْكَبُونَ﴾ هذا كله كلام الواحدي وهو بحث حسن. أما قوله :﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَآاـاِلِ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : في المراد باليمين والشمائل قولان :


الصفحة التالية
Icon