القول الأول : أن يمين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب، والسبب في تخصيص هذين الاسمين بهذين الجانبين أن أقوى جانبي الإنساني يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية، فلما كانت الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الإظلال إلى الجانب الغربي، فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقع الإظلال في الجانب الشرقي، فهذا هو المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال وبالعكس، وعلى هذا التقدير : فالإظلال في أول النهار تبتدىء من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض، ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدىء الإظلال من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٩
القول الثاني : أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل، فإن في الصيف تحصل الشمس على يسارها، وحينئذ يقع الإظلال على يمينهم، فهذا هو المراد من انتقال الإظلال عن الأيمان إلى الشمائل وبالعكس. هذا ما حصلته في هذا الباب، وكلام المفسرين فيه غير ملخص.
البحث الثاني : لقائل أن يقول : ما السبب في أن ذكر اليمين بلفظ الواحد، والشمائل بصيغة الجمع ؟
وأجيب عنه بأشياء : أحدها : أنه وحد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر في اللفظ على الواحد/ كقوله تعالى :﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ (القمر : ٤٥). وثانيها : قال الفراء : كأنه إذا وحد ذهب إلى واحدة من ذوات الأظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها، وذلك لأن قوله :﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ﴾ لفظه واحد، ومعناه الجمع على ما بيناه فيحتمل كلا الأمرين. وثالثها : أن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله تعالى :﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ ﴾ (الأنعام : ١) وقوله :﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ (البقرة : ٧). ورابعها : أنا إذا فسرنا اليمين بالمشرق كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمين واحدة. وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة، فلذلك عبر الله تعالى عنها بصيغة الجمع والله أعلم.
المسألة الرابعة : أما قوله :﴿سُجَّدًا لِّلَّهِ﴾ ففيه احتمالات : الأول : أن يكون المراد من السجود الاستسلام والانقياد يقال : سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال : أسجد لقرد السوء في زمانه، أي أخضع له قال الشاعر :
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
أي متواضعة إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى دبر النيرات الفلكية، والأشخاص الكوكبية بحيث يقع أضواؤها على هذا العالم السفلي على وجوه مخصوصة. ثم إنا نشاهد أن تلك الأضواء، وتلك الإظلال لا تقع في هذا العالم إلا على وفق تدبير الله تعالى وتقديره، فنشاهد أن الشمس إذا طلعت وقعت الأجسام الكثيفة أظلال ممتدة في الجانب الغربي من الأرض، ثم كلما ازدادت الشمس طلوعاً وارتفاعاً/ ازدادت تلك الأظلال تقلصاً وانتقاصاً إلى الجانب الشرقي إلى أن تصل الشمس إلى وسط الفلك، فإذا انحدرت إلى الجانب الغربي ابتدأت الأظلال بالوقوع في الجانب الشرقي، وكلما ازدادت الشمس انحداراً ازدادت الأظلال تمدداً وتزايداً في الجانب الشرقي. وكما أنا نشاهد هذه الحالة في اليوم الواحد، فكذلك نشاهد أحوال الأظلال مختلفة في التيامن والتياسر في طول السنة، بسبب اختلاف أحوال الشمس في الحركة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، فلما شاهدنا أحوال هذه الأظلال مختلفة بسبب الاختلافات اليومية الواقعة في شرق الأرض وغربها، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة في يمين الفلك ويساره، ورأينا أنها واقعة على وجه مخصوص وترتيب معين، علمنا أنها منقادة لقدرة الله خاضعة لتقديره وتدبيره، فكانت السجدة عبارة عن هذه الحالة.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٩
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : اختلاف حال هذه الأظلال معلل باختلاف سير النير الأعظم الذي هو الشمس، لا لأجل تقدير الله تعالى وتدبيره ؟
قلنا : قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركاً لذاته، إذ لو كانت ذاته علة لهذا الجزء المخصوص من الحركة، لبقي هذا الجزء من الحركة لبقاء ذاته، ولو بقي ذلك الجزء من الحركة لامتنع حصول الجزء الآخر من الحركة، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا سكوناً لا حركة، فالقول بأن الجسم المتحرك لذاته يوجب القول بكونه ساكناً لذاته وأنه محال، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً، فعلمنا أن الجسم يمتنع كونه متحركاً لذاته، وأيضاً فقد دللنا على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية، فاختصاص جرم الشمس بالقوة المعينة والخاصية المعينة لا بد وأن يكون بتدبير الخالق المختار الحكيم.


الصفحة التالية
Icon