المسألة الخامسة : قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار سبحانه، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض، فخالق العالم دبر تدبيراً، فقلب ذلك الطين نباتاً وعشباً، ثم إذا أكله الحيوان دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك العشب دماً، ثم دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدم لبناً، ثم دبر تدبيراً آخر فحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن، فهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة، ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك، فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة، ذكر في هذه الآية بعض منافع النبات، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فإن قيل : بم تعلق قوله :﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ﴾.
قلنا : بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه. وقوله :﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾ بيان وكشف عن كنه الإسقاء.
المسألة الثانية : قال الواحدي : عطف على الثمرات لا على النخيل، لأنه يصير التقدير : ومن ثمرات الأعناب، والعنب نفسه ثمرة وليست له ثمرة أخرى.
المسألة الثالثة : في تفسير السكر وجوه : الأول : السكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو : رشد رشداً ورشداً، وأما الرزق الحسن فسائر ما يتخذ من النخيل والأعناب كالرب والخل والدبس والتمر والزبيب.
فإن قيل : الخمر محرمة فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام ؟
أجابوا عنه من وجهين : الأول : أن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة، فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة. الثاني : أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من النافع/ وخاطب المشركين بها، والخمر من أشربتهم فهي منفعة في حقهم، ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضاً على تحريمها، وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن لا يكون السكر رزقاً حسناً، ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة، فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشريعة، وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٥
القول الثاني : أن السكر هو النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله إلى حد السكر، ويحتج بأن هذه الآية تدل على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة، ودل الحديث على أن الخمر حرام قال عليه السلام :"الخمر حرام لعينها" وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر، وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ.
والقول الثالث : أن السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة : واحتج عليه بقول الشاعر :
جعلت أعراض الكرام سكراً
أي جعلت ذمهم طعاماً لك، قال الزجاج : هذا بالخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنك جعلت تتخمر بأغراض الكرام، والمعنى : أنه جعل شغفه بغيبة الناس وتمزيق أعراضهم جارياً مجرى شرب الخمر.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه التي هي دلائل من وجه، وتعديد للنعم العظيمة من وجه آخر، قال :﴿حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ والمعنى : أن من كان عاقلاً، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم. والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٥
٢٣٩
اعلم أنه تعالى لما بين أن إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاهرة، وبينات باهرة على أن لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً، فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود، وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon