المسألة الأولى : قوله :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ يقال وحى وأوحى، وهو الإلهام، والمراد من الإلهام أنه تعالى قرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر، وبيانه من وجوه : الأول : أنها تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل المسطر والفرجار. والثاني : أنه ثبت في الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة، أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة فإنه لا يبقى فيما بينها فرج ضائعة، فإهداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة/ من الأعاجيب. والثالث : أن النحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرئيس للبقية، وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي، ويكون نافذ الحكم على تلك البقية، وهم يخدمونه ويحملونه عند الطيران، وذلك أيضاً من الأعاجيب. والرابع : أنها إذا نفرت من وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطنبور والملاهي وآلات الموسيقى، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى وكرها، وهذا أيضاً حالة عجيبة، فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة، وكان حصول هذه الأنواع من الكياسة ليس إلا على سبيل الإلهام وهي حالة شبيهة بالوحي، لا جرم قال تعالى في حقها :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾.
واعلم أن الوحي قد ورد في حق الأنبياء لقوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا﴾ (الشورى : ٥١) وفي حق الأولياء أيضاً قال تعالى :﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى﴾ (المائدة : ١١١) وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى :﴿يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّ مُوسَى ﴾ (القصص : ٧) وفي حق سائر الحيوانات كما في قوله :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ ولكل واحد من هذه الأقسام معنى خاص. والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٩
المسألة الثانية : قال الزجاج : يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً، لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها، وقال غيره النحل يذكر ويؤنث، وهي مؤنثة في لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله تعالى، وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.
ثم قال تعالى :﴿أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" :﴿أَنِ اتَّخِذِى﴾ هي "أن" المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول، وقرىء :﴿بُيُوتًا﴾ بكسر الباء ﴿وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ أي يبنون ويسقفون، وفيه لغتان قرىء بهما، ضم الراء وكسرها مثل يعكفون ويعكفون.
واعلم أن النحل نوعان :
النوع الأول : ما يسكن في الجبال والغياض ولا يتعهدها أحد من الناس.
والنوع الثاني : التي تسكن بيوت الناس وتكون في تعهدات الناس، فالأول هو المراد بقوله :﴿أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ﴾. والثاني : هو المراد بقوله :﴿وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ وهو خلايا النحل.
فإن قيل : ما معنى "من" في قوله :﴿أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ وهلا قيل في الجبال وفي الشجر ؟
قلنا : أريد به معنى البعضية، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر، بل في مساكن توافق مصالحها وتليق بها.
المسألة الثانية : ظاهر قوله تعالى :﴿أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ أمر، وقد اختلفوا فيه، فمن الناس من يقول لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول، ولا يبعد أن يتوجه عليها من الله تعالى أمر ونهي. وقال آخرون : ليس الأمر كذلك بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، والكلام المستقصى في هذه المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى :﴿نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ﴾ (النمل : ١٨).
ثم قال تعالى :﴿ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ لفظة "من" ههنا للتبعيض أو لابتداء الغاية، ورأيت في "كتب الطب" أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه، وهو أنه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع ذلك الطل على أوراق الأشجار، فقد تكون تلك الأجزاء الطلية لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار، وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٩
أما القسم الثاني : فهو مثل الترنجبين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على أطراف الطرفاء في بعض البلدان وذلك محسوس.


الصفحة التالية
Icon