وأما القسم الأول : فهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل حتى أنها تلتقط تلك الذرات من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها، فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء وذهبت بها إلى بيوتها ووضعتها هناك، لأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذاك هو العسل، ومن الناس من يقول : إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق المعطرة أشياء، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلاً، ثم إنها تقيء مرة أخرى فذاك هو العسل، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة إلى الاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل، ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا ههنا. وأيضاً فنحن نشاهد أن هذا النحل إنما يتغذى بالعسل، ولذلك فإنا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقية من ذلك لأجل أن تغتذي بها فعلمنا أنها إنما تغتذي بالعسل وأنها إنما تقع على الأشجار والأزهار لأنها تغتذي بتلك الأجزاء الطلية العسلية الواقعة من الهواء عليها.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى :﴿ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ كلمة (من) ههنا تكون لابتداء الغاية، ولا تكون للتبعيض على هذا القول.
ثم قال تعالى :﴿فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ﴾ والمعنى : ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك في الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو يكون المراد : فاسلكي في طلب تلك الثمرات سبل ربك. أما قوله :﴿ذُلُلا ﴾ ففيه قولان : الأول : أنه حال من السبل لأن الله تعالى ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله :﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ ذَلُولا﴾ (الملك : ١٥) الثاني : أنه حال من الضمير في ﴿فَاسْلُكِى﴾ أي وأنت أيها النحل ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة.
ثم قال تعالى :﴿يَخْرُجُ مِنا بُطُونِهَا﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : أن هذا رجوع من الخطاب إلى الغيبة والسبب فيه أن المقصود من ذكر هذه الأحوال أن يحتج الإنسان المكلف به على قدرة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره لأحوال العالم العلوي والسفلي، فكأنه تعالى لما خاطب النحل بما سبق ذكره خاطب الإنسان وقال : إنا ألهمنا هذا النحل لهذه العجائب، لأجل أن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٩
البحث الثاني : أنه قد ذكرنا أن من الناس من يقول : العسل عبارة عن أجزاء طلية تحدث في الهواء وتقع على أطراف الأشجار وعلى الأوراق والأزهار، فيلقطها الزنبور بفمه، فإذا ذهبنا إلى هذا الوجه كان المراد من قوله :﴿يَخْرُجُ مِنا بُطُونِهَا﴾ أي من أفواهها، وكل تجويف في داخل البدن فإنه يسمى بطناً، ألا ترى أنهم يقولون : بطون الدماغ وعنوا أنها تجاويف الدماغ، وكذا ههنا يخرج من بطونها أي من أفواهها، وأما على قول أهل الظاهر، وهو أن النحلة تأكل الأوراق والثمرات ثم تقيء فذلك هو العسل فالكلام ظاهر.
ثم قال تعالى :﴿شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُه فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ ﴾ اعلم أنه تعالى وصف العسل بهذه الصفات الثلاثة :
فالصفة الأولى : كونه شراباً والأمر كذلك، لأنه تارة يشرب وحده وتارة يتخذ من الأشربة.
والصفة الثانية : قوله :﴿مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ والمعنى : أن منه أحمر وأبيض وأصفر. ونظيره قوله تعالى :﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُا بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ (فاطر : ٢٧) والمقصود منه : إبطال القول بالطبع، لأن هذا الجسم مع كونه متساوي الطبيعة لما حدث على ألوان مختلفة، دل ذلك على أن حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار، لا لأجل إيجاد الطبيعة.
والصفة الثالثة : قوله :﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ ﴾ وفيه قولان :
القول الأول : وهو الصحيح أنه صفة للعسل.
فإن قالوا : كيف يكون شفاء للناس وهو يضر بالصفراء ويهيج المرارة ؟
قلنا : إنه تعالى لم يقل إنه شفاء لكل الناس ولكل داء وفي كل حال، بل لما كان شفاء للبعض/ من بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء، والذي يدل على أنه شفاء في الجملة أنه قال معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل، وأيضاً فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع.
والقول الثاني : وهو قول مجاهد أن المراد : أن القرآن شفاء للناس، وعلى هذا التقدير فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله :﴿يَخْرُجُ مِنا بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ ثم ابتدأ وقال :﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ ﴾ أي في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة، مثل هذا الذي في قصة النحل. وعن ابن مسعود : أن العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٩


الصفحة التالية
Icon