والقول الثالث : أن المقصود منه : كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة، وهذا القول أولى من القول الأول، لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن، وكذلك بالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله تعالى، وأيضاً فالمقوصد تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور، وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون إحدى الصورتين مغايرة للأخرى.
وأما القول الثاني : فضعيف أيضاً، لأن المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات المذكورة، وذلك غير مختص بشخص معين، بل أيما حصل التفاوت في الصفات المذكورة حصل المقصود. والله أعلم.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى مثل الكفار بالأبكم العاجز، ومثل نفسه بالذي يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، ومعلوم أنه يمتنع أن يكون آمراً بالعدل، وأن يكون على صراط مستقيم إلا إذا كان كاملاً في العلم والقدرة، وذكر في هذه الآية بيان كونه كاملاً في العلم والقدرة، أما بيان كمال العلم فهو قوله :﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ والمعنى : علم الله غيب السموات والأرض وأيضاً فقوله :﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ يفيد الحصر معناه : أن العلم بهذه الغيوب ليس إلا الله وأما بيان كمال القدرة فقوله :﴿وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الإنسان في ساعة فيموت الخلق بصيحة واحدة، وقوله :﴿إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ اللمح النظر بسرعة يقال لمحه ببصره لمحاً ولمحاناً، والمعنى : وما أمر قيام القيامة في السرعة إلا كطرف العين، والمراد منه تقرير كمال القدرة، وقوله :﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ معناه أن لمح البصر عبارة عن انتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، ولا شك أن الحدقة مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة تلك الأجزاء التي منها تألف سطح الحدقة، ولا شك أن تلك الأجزاء كثيرة، والزمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من آنات متعاقبة، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآنات فلهذا قال :﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ تنبيهاً على ما ذكرناه، ولا شبهة في أنه ليس المراد طريقة الشك، بل المراد. بل هو أقرب، وقال الزجاج : المراد به الإبهام عن المخاطبين أنه تعالى يأتي بالساعة إما بقدر لمح البصر أو بما هو أسرع. قال القاضي : هذا لا يصح، لأن إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال إنه تعالى يأتي بها في زمان، بل الواجب أن يخلقها دفعة واحدة في وقت واحد، ويفارق ما ذكرناه في ابتداء خلق السموات والأرض لأن تلك الحال حال تكليف، فلم يمتنع أن يخلقهما كذلك لما فيه من مصحلة الملائكة.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٥٧
واعلم أن هذا الاعتراض إنم يستقيم على مذهب القاضي، أما على قولنا في أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فليس له قوة والله أعلم، ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فقال :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي ﴿أُمَّهَـاتِكُمْ﴾ بكسر الهمزة، والباقون بضمها.
المسألة الثانية : أمهاتكم أصله أماتكم، إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق فقيل : إهراق وشذت زيادتها في الواحدة في قوله :
أمهتي خندف واليأس أبي
المسألة الثالثة : الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء.
ثم قال تعالى :﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ ﴾ والمعنى : أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله، فالله أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف والعلوم، وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير فنقول : التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية، وإما أن تكون بديهية، والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات، فلا بد من سبق هذه العلوم البديهية، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول : هذه العلوم البديهية إما أن يقال إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة. والأول باطل لأنا بالضرورة نعلم أن حين كنا جنيناً في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء.
وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب، وكل ما كان كسبياً فهو مسبق بعلوم أخرى، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية، ويجب أنت كون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية، وكل ذلك محال، وهذا سؤال قوي مشكل.
وجوابه أن نقول : الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا. ثم إنها حدثت وحصلت، أما قوله فيلزم أن تكون كسبية.


الصفحة التالية
Icon