قلنا : هذه المقدمة ممنوعة، بل نقول : أنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر، فإذا أبصر الطفل شيئاً مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك المبصر، وكذلك إذا سمع شيئاً مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع وكذا القول في سائر الحواس، فيصير حصول الحواس سبباً لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل ثم إن تلك الماهيات على قسمين : أحد القسمين : ما يكون نفس حضوره موجباً تاماً في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو، / وأن نصف الاثنين ما هو كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين، وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٥٧
والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو وأن المحدث ما هو، فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث، بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة. والحاصل : أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية، وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها. وحدوث هذه التصورات إنما كن بسبب إعانة هذه الحواس على جزيئاتها، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس. فلهذا السبب قال تعالى :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ ﴾ ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات. وقال المفسرون :﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ لتسمعوا مواعظ الله ﴿وَالابْصَـارَ﴾ لتبصروا دلائل الله، والأفئدة لتعقلوا عظمة الله، والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب. قال الزجاح : ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد، وما قيل فيه فئدان كما قيل : غراب وغربان. وأقول : لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيهاً على أن السمع والبصر كثيران وأن الفؤاد قليل، لأن الفوائد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية، وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد، فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ﴾ عطف على قوله :﴿أَخْرَجَكُم﴾ وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخراً عن الإخراج من البطن، ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجاب : أن حرف الواو لا يوجب الترتيب ؛ وأيضاً إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال، والله أعلم.
أما قوله :﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّه ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي :﴿أَلَمْ تَرَوْا ﴾ بالتالء والباقون بالياء على الحكاية لمن تقدم ذكره من الكفار.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٥٧
المسألة الثانية : هذا دليل آخر على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران فيه لما أمكن ذلك فإنه تعالى / أعطى الطير جناحاً يبسطه مرة ويكسره أخرى مثل ما يعمله السابح في الماء، وخلق الهواء خلقة لطيفة رقيقة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً. وأما قوله تعالى :﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّه ﴾ فالمعنى : أن جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقاً من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجو هو الله تعالى، ثم من الظاهر أن بقاءه في الجو معلقاً فعله وحاصل باختياره، فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى. قال القاضي : إنما أضاف الله تعالى هذا الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات التي لأجلها يمكن الطير من تلك الأفعال، فلما كان تعالى هو المسبب لذلك لا جرم صحت هذه الإضافة إلى الله تعالى.
والجواب : أن هذا ترك للظاهر بغير دليل وأنه لا يجوز، لا سيما والدلائل العقلية دلت على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
ثم قال تعالى في آخر الآية :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وخص هذه الآيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء. والله أعلم.
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد، وأقسام النعم والفضل، والسكن المسكن، وأنشد الفراء :
جاء الشتاء ولما اتخذ سكناً
يا ويح كفي من حفر القراميص


الصفحة التالية
Icon