والسكن ما سكنت إليه وما سكنت فيه. قال صاحب "الكشاف" : السكن فعل بمعنى مفعول، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو ألف.
واعلم أن البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين :
القسم الأول : البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت، / وإليها الإشارة بقوله :﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنا بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقله، بل الإنسان ينتقل إليه.
والقسم الثاني : القباب والخيام والفساطيط، وإليها الإشارة بقوله :﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الانْعَـامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ﴾ وهذا القسم من البيوت يمكن نقله وتحويله من مكان إلى مكان. واعلم أن المراد الأنطاع، وقد تعمل العرب البيوت من الأدم وهي جلود الأنعام أي يخف عليكم حملها في أسفاركم. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو :﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ بفتح العين والباقون ساكنة العين. قال الواحدي : وهما لغتان كالشعر والشعر والنهر والنهر.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٥٧
واعلم أن الظعن سير البادية لنجعة، أو حضور ماء، أو طلب مرتع، وقد يقال لكل شاخص لسفر : ظاعن، وهو ضد الخافض. وقوله :﴿وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ﴾ بمعنى لا يثقل عليكم في الحالين. وقوله :﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ﴾ قال المفسرون وأهل اللغة : الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز. وقوله :﴿أَثَـاثًا﴾ الأثاث أنواع متاح البيت من الفرش والأكسية. قال الفراء : ولا واحد له، كما أن المتاع لا واحد له. قال : ولو جمعت، فقلت : آثثة في القليل وأثث في الكثير لم يبعد. وقال أبو زيد : واحدها أثاثة. قال ابن عباس في قوله :﴿أَثَـاثًا﴾ يريد طنافس وبسطاً وثياباً وكسوة. قال الخليل : وأصله من قولهم : أث النبات والشعر إذا كثر. وقوله :﴿مَّتَـاعًا﴾ أي ما يتمتعون به. وقوله :﴿إِلَى حِينٍ﴾ يريد إلى حين البلا، وقيل : إلى حين الموت. وقيل : إلى حين بعد الحين، وقيل : إلى يوم القيامة.
فإن قيل : عطف المتاع على الأثاث والعطف يقتضي المغايرة، وما الفرق بين الأثاث والمتاع ؟
قلنا : الأقرب أن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويزين به.
اعلم أن الإنسان إما أن يكون مقيماً أو مسافراً، والمسافر إما أن يكون غنياً يمكنه استصحاب الخيام والفساطيط، أو لا يمكنه ذلك فهذه أقسام ثلاثة :
أما القسم الأول : فإليه الإشارة بقوله :﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنا بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾.
وأما القسم الثاني : فإليه الإشارة بقوله :﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الانْعَـامِ بُيُوتًا﴾ وأما القسم الثالث : فإليه الإشارة بقوله :﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـالا﴾ وذلك لأن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها فإنه لا بد وأن يستظل بشيء آخر كالجدران والأشجار وقد يستظل بالغمام كما قال :﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ (البقرة : ٥٧).
ثم قال :﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـانًا﴾ واحد الأكنان عن على قياس أحمال وحمل، ولكن المراد كل شيء وقى شيئاً، ويقال استكن وأكن إذا صار في كن.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٥٧
واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة، وأيضاً البلاد المعتدلة والأوقات المعتدلة نادرة جداً والغالب إما غلبة الحر أو غلبة البرد. وعلى كل التقديرات فلا بد للإنسان من مسكن يأوي إليه، فكان الإنعام بتحصيله عظيماً، ولما ذكر تعالى أمر المسكن ذكر بعده أمر الملبوس فقال :﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ السرابيل القمص واحدها سربال، قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره، والذي يدل على صحة هذا القول أنه جعل السرابيل على قسمين : أحدهما : ما يكون واقياً من الحر والبرد. والثاني : ما يتقى به عن البأس والحروب، وذلك هو الجوشن وغيره، وذلك يدل على أن كل واحد من القسمين من السرابيل.
فإن قيل : لم ذكر الحر ولم يذكر البرد ؟
أجابوا عنه من وجوه :
الوجه الأول : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب وبلادهم حارة فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحر فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال :﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ﴾ (النحل : ٨٠) وسائر أنواع الثياب أشرف، إلا أنه تعالى ذلك ذلك النوع لأنه كان إلفتهم بها أشد، واعتيادهم للبسها / أكثر، ولذلك قال :﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنا بَرَدٍ﴾ (النور : ٤٣) لمعرفتهم بذلك وما أنزل من الثلج أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه.


الصفحة التالية
Icon