٢٥٧
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين كفروا، أتبعه بوعيد من ضم إلى كفره صد الغير عن سبيل الله. وفي تفسير قوله :﴿وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وجهان : قيل : معناه الصد عن المسجد الحرام، والأصح أنه يتناول جملة الإيمان بالله والرسول وبالشرائع، لأن اللفظ عام فلا معنى للتخصيص/ وقوله :﴿زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ فالمعنى أنهم زادوا على كفرهم صد غيرهم عن الإيمان فهم في الحقيقة ازدادوا كفراً على كفر، فلا جرم يزيدهم الله تعالى عذاباً على عذاب، وأيضاً أتباعهم إنما اقتدوا بهم في الكفر، فوجب أن يحصل لهم مثل عقاب أتباعهم لقوله تعالى :﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ (العنكبوت : ١٣) ولقوله عليه السلام :"من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، ومن المفسرين من ذكر تفصيل تلك الزيادة فقال ابن عباس : المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنهار، وقال بعضهم زدناهم عذاباً بحيات وعقارب كأمثال البخث، فيستغيثون بالهرب منها إلى النار ومنهم من ذكر لكل عقرب ثلثمائة فقرة في ثلثمائة قلة من سلم. وقيل : عقارب لها أنياب كالنخل الطوال.
ثم قال تعالى :﴿بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾ أي هذه الزيادة من العذاب إنما حصلت معللة بذلك الصد، وهذا يدل على أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال فقد عظم عذابه، فكذلك إذا دعا إلى الدين واليقين، فقد عظم قدره عند الله تعالى والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٥٧
٢٥٨
اعلم أن هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلفين عن المعاصي. واعلم أن الأمة عبارة عن الفرن والجماعة.
إذا ثبت هذا فنقول : في الآية قولان : الأول : أن المراد أن كل نبي شاهد على أمته. والثاني : أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا فلا بد وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيداً عليهم. أما الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهو الرسول بدليل قوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (البقرة : ١٤٣) وثبت أيضاً أنه لا بد في كل زمان بعد زمان الرسول من الشهيد فحصل من هذا أن عصراً من الإعصار لا يخلو/ من شهيد على الناس وذلك الشهيد لا بد وأن يكون غير جائز الخطأ، وإلا لافتقر إلى شهيد آخر ويمتد ذلك إلى غير النهاية وذلك باطل، فثبت أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة. قال أبو بكر الأصم : المراد بذلك الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى أنها تشهد عليه وهي : الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان. قال : والدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم.
أجاب القاضي عنه من وجوه : الأول : أنه تعالى قال :﴿شَهِيدًا عَلَيْهِم﴾ أي على الأمة فيجب أن يكون غيرهم. الثاني : أنه قال :﴿مِن كُلِّ أُمَّةٍ﴾ فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمة، وأما حمل هؤلاء الشهداء على الأنبياء فبعيد، وذلك لأن كونهم أنبياء مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضرورة فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه.
ثم قال تعالى :﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله أنه تعالى لما قال :﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـا ؤُلاءِ ﴾ بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فلا حجة لهم ولا معذرة.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٥٨
المسألة الثانية : من الناس من قال : القرآن تبيان لكل شيء وذلك لأن العلوم إما دينية أو غير دينية، أما العلوم التي ليست دينية فلا تعلق لها بهذه الآية، لأن من المعلوم بالضرورة أن الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه، وأما علوم الدين فإما الأصول، وإما الفروع، أما علم الأصول فهو بتمامه موجود في القرآن وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب، وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن، وإذا كان كذلك كان القول بالقياس باطلاً، وكان القرآن وافياً ببيان كل الأحكام، وأما الفقهاء فإنهم قالوا : القرآن إنما كان تبياناً لكل شيء، لأنه يدل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأوصل كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن، وهذه المسألة قد سبق ذكرها بالاستقصاء في سورة الأعراف، والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon