واعلم أن الإحسان بالتفسير الذي دكرنا دخل فيه التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، ومن الظاهر أن الشفقة على خلق الله أقسام كثيرة وأشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر فقال :﴿وَإِيتَآى ِ ذِى الْقُرْبَى ﴾ فهذا تفصيل القول في هذه الثلاثة التي أمر الله تعالى بها. وأما الثلاثة التي نهى الله عنها، وهي الفحشاء والمنكر والبغي فنقول : إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة، وهي الشهوانية البهيمية والعصبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية وهذه القوة الرابعة أعني العقلية الملكية لا يحتاج الإنسان إلى تأديبها وتهذيبها، لأنها من جواهر الملائكة، ومن نتائج الأرواح القدسية العلوية، إنما المحتاج إلى التأديب والتهذيب تلك القوى الثلاثة الأولى. أما القوة الشهوانية، فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية، وهذا النوع مخصوص باسم الفحش، إلا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة فقال :﴿إِنَّه كَانَ فَـاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلا﴾ (النساء : ٢٢) فقوله تعالى :﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ﴾ المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، وأما القوة الغضبية السبعية فهي : أبداً تسعى في إيصال الشر والبلاء والإيذاب إلى سائر الناس، ولا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة، فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية. وأما القوة الوهمية الشيطانية فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم، وذلك هو المراد من البغي، فإنه لا معنى للبغي إلا التطاول على الناس والترفع عليهم، فظهر بما ذكرنا أن هذه الألفاظ الثلاثة منطبقة على أحوال هذه القوى الثلاثة، ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا : أخس هذه القوى الثلاثة هي الشهوانية، وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية. والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ بالفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية، ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية، ثم بالبغي الذي هو نتيجة القوة الوهمية، فهذا ما وصل إليه عقلي وخاطري في تفسير هذه الألفاظ، فإن يك صواباً فمن الرحمن، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان والحمد لله على ما خصنا بهذا النوع من الفضل والإحسان إنه الملك الديان.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٣
ثم قال تعالى :﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ والمراد بقوله تعالى :﴿يَعِظُكُمْ﴾ أمره تعالى بتلك الثلاثة ونهيه عن هذه الثلاثة :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال في الآية الأولى :﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ﴾ (النحل : ٨٩) أردفه بهذه الآية مشتملة على الأمر بهذه الثلاثة، والنهي عن هذه الثلاثة، كان ذك تنبيهاً على أن المراد بكون القرآن تبياناً لكل شيء هو هذه التكاليف الستة وهي في الحقيقة كذلك، لأن جوهر النفس من زمرة الملائكة ومن نتائج الأرواح العالية القدسية إلا أنه دخل في هذا العالم خالياً عارياً عن التعلقات فتلك الثلاثة التي أمر الله بها هي التي ترقيها بالمعارف الإلهية والأعمال الصالحة، وتلك المعارف والأعمال هي التي ترقيها إلى عالم الغيب وسرادقات القدس، ومجاورة الملائكة المقربين في جوار رب العالمين، وتلك الثلاثة التي نهى الله عنها هي التي تصدها عن تلك السعادات وتمنعها عن الفوز بتلك الخيرات، فلما أمر الله تعالى بتلك الثلاثة/ ونهى عن هذه الثلاثة فقد نبه على كل ما يحتاج إليه المسافرون من عالم الدنيا إلى مبدأ عرصة القيامة.


الصفحة التالية
Icon