المسألة الثانية : قال الكعبي : الآية تدل على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء، وذلك من وجوه : الأول : أنه تعالى كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم، وكيف ينهى عما يريد تحصيله فيهم ولو كان الأمر كما قالوا لكان كأنه تعالى قال : إن الله يأمركم أن تفعلوا خلاف ما خلقه فيكم وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم، ومعلوم أن ذلك باطل في بديهة العقل. والثاني : أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فلو أنه تعالى أمر بتلك الثلاثة ثم إنه ما فعلها لدخل تحت قوله :﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ (البقرة : ٢، ٣). الثالث : أن قوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ليس المراد منه الترجي والتمني، فإن ذلك محال على الله تعالى، فوجب أن يكون معناه أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكروا طاعته، وذلك يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل. الرابع : أنه تعالى لو صرح وقال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ولكنه تمنع منه ويصد عنه ولا يمكن العبد منه. ثم قال :﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ ﴾ ولكنه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى وأراده منه ومنعه من تركه، ومن الاحتراز عنه لحكم كل أحد عليه بالركاكة وفساد النظم والتركيب، وذلك يدل على كونه سبحانه متعالياً عن فعل القبائح.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٣
واعلم أن هذا النوع من الاستدلال كثير، وقد مر الجواب عنه والمعتمد في دفع هذه المشاغبات التعويل على سؤال الداعي وسؤال العلم والله أعلم.
المسألة الثالثة : اتفق المتكلمون من أهل السنة ومن المعتزلة على أن تذكر الأشياء من فعل/ لله لا من فعل العبد، والدليل عليه هو أن التذكرة عبارة عن طلب المتذكر فحال الطلب إما أن يكون له به شعور أو لا يكون له به شعور. فإن كان له شعور فذلك الذكر حاصل، والحاصل لا يطلب تحصيله. وإن لم يكن له به شعور فكيف يطلبه بعينه، لأن توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون هو بعينه متصوراً محال.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ معناه أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكر، فإذا لم يكن التذكر فعلاً له فكيف طلب منه تحصيله، وهذا هو الذي يحتج به أصحابنا على أن قوله تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لا يدل على أنه تعالى يريد منه ذلك، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٣
٢٦٥
اعلم أنه تعالى لما جمع كل المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام، فبدأ تعالى بالأمر بالوفاء بالعهد وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير قوله :﴿بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ وجوهاً : الأول : قال صاحب "الكشاف" : عهد الله هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإسلام لقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (الفتح : ١٠) أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توكيدها، أي بعد توثيقها باسم الله. الثاني : أن المراد منه كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره قال ابن عباس : والوعد من العهد، وقال/ ميمون بن مهران من عاهدته وف بعهده مسلماً كان أو كافراً فإنما العهد صلى الله عليه وسلّم تعالى. الثالث : قال الأصم : المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق. الرابع : عهد الله هو اليمين بالله، وقال هذا القائل : إنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه، لأنه عليه السلام قال :"من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر". الخامس : قال القاضي : العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه، ومعلوم أن أدلة العقل والسمع أوكد في لزوم الوفاء بما يدلان على وجوبه من اليمين ولذلك لا يصح في هذين الدليلين التغير والاختلاف، ويصح ذلك في اليمين وربما ندب فيه خلاف الوفاء.


الصفحة التالية
Icon